الاثنين، 17 أكتوبر 2011

المدارس الأجنبية فى مصر ملفات تحتاج لمعالجة عاجلة

..
أهم النتائج: الانتماء للآخر وطمس الهوية المصرية
رؤية: ناجى هيكل
لم تعد مشكلة الأسرة المصرية أن يجد أبناؤها عملاً رغم أن شبح البطالة يطارد الملايين من الشباب الحائر وسط الشوارع وفى النوادى وعلى المقاهى.. ولكن هناك مشكلة أخرى تسبق البطالة الآن من حيث العمر والزمن وجوانب تكوين الشخصية وهى التعليم.. فى زمن مضى كنا نتعلم فى المدارس الحكومية وكانت قادرة -رغم ضعف الإمكانات- على تقديم أجيال استطاعت أن تقدم صياغة عصرية فى زمانها لبلد متحضر وإنسان يدرك مسئولياته ونماذج رفيعة فى الفكر والأخلاق والسلوك..
من التعليم المصرى القديم خرج نجيب محفوظ وأحمد زويل ومجدى يعقوب وفاروق الباز وعشرات النماذج الفكرية العلمية العالمية الرائعة.. كان المدرس المصرى نموذجاً فى الكفاءة والقدرات.. وكانت المناهج المدرسية تسير على منظومة العصر.. وكانت المدرسة المصرية نظيفة راقية، وقبل هذا كان هناك اعتراف دولى بمستوى التعليم فى مصر بجانب دول العالم المتقدم..
لم تكن الجامعة الأمريكية بكل إمكاناتها أفضل من جامعة القاهرة.. ولم تكن المدارس الأجنبية يوماً مثل الفرير والليسية أفضل من مدارس الأورمان أو الإبراهيمية أو السنية أو السعيدية أو الخديوية، بل إن المدارس المصرية كانت هى الأفضل فى كل شىء، وكان الطالب المصرى الذى يحصل على التوجيهية أو الثانوية لا يحتاج لمكتب تنسيق لأن التفوق كان بوابة المتميزين نحو كليات القمة..
ولكن الزمان كما يقولون اختلف ولم تعد المدرسة المصرية كما كانت أمام التكدس البشرى الرهيب.. ولم يعد المدرس المصرى هو النموذج أمام بورصة الدروس الخاصة ومضاربات المجموعات وفرق الغش الجماعى.. كما أن المناهج اختلطت وتشوهت وتداخلت فيها السياسة والعقيدة والفقر والغنى.. وهنا أصبح حلم كل أب أم أن يجدا مدرسة مناسبة يتعلم فيها الأبناء ليس لضمان وظيفة فى المستقبل القريب أو البعيد ولكن لضمان تخريج إنسان ومواطن متوازن فى الفكر والسلوك ينتفع به المجتمع والبلد .
هناك سؤالاً حائراً فى كل بيت مصرى الآن: ما هو مستقبل شباب هذا البلد فى ظل منظومة التعليم الحالية؟
أقول: إن أخطر ما فى هذه المنظومة هو تراجع مستوى التعليم فى مصر بدرجة خطيرة أمام عجز كامل عن مواكبة العصر فى الفكر والأسلوب والتكوين.. على جانب آخر وفى مقابل تعليم متخلف نجد تعليماص تجارياً أصبح مصدراً للثروات وجمع الأموال ولم يعد أمام المواطن المصرى غير أن يجمع كل ما لديه لكى يدخل ابنه مدرسة مناسبة.. وما بين تعليم حكومى قاصر وعاجز وتعليم خاص يبحث عن المكاسب والأرباح ظهر تيار ثالث أصبح الآن مصدر ازعاج للجميع وهو المدارس الأجنبية.. إن المدارس الأجنبية ليست نشاطـاً تعليمياً وثقافياً جديداً فى مصر فقد جاء منذ عصر إسماعيل وربما قبل ذلك ولكنه فى السنوات الأخيرة ازداد حدة وشراسة وانتشاراً وإقبالاً عليه بصورة غير مسبوقة..
من حيث التكلفة والمصروفات فإننا نسمع الآن أرقامـاً خيالية عن مبالغ رهيبة تحصل عليها المدارس الأجنبية وتصل إلى 100ألف جنيهاً فى السنة وهناك مدارس بالدولار تقترب من 50ألف دولاراً سنوياً وبجانب هذا توجد مدارس لا تقبل التلاميذ المصريين وهى مخصصة فقط للأجانب ومواطنى الدول العربية الشقيقة وأبناء الجاليات الوافدة فى مصر.
إن أخطر ما فى المدارس الأجنبية أنها مجموعة من الجزر التى لا يعرف أحد عنها شيئـاً حتى وزارة التربية والتعليم المسئولة عن التعليم فى مصر لا تستطيع التدخل فى شئون هذه المدارس من حيث المصروفات أو المناهج أو تدريس اللغات وحتى الجوانب السلوكية التى تروج لها بعض هذه المدارس وتتنافى فى أحيان كثيرة مع تقاليد المجتمع المصرى وسلوكه وعقائده.
إن معظم خريجى المدارس الأجنبية فى مصر لا يدرسون اللغة العربية ولا يتعلمونها ولا يؤدون الامتحانات فيها ومن هنا سوف نجد أنفسنا أمام أجيال لا تتحدث لغتها ولا تعلم منها شيئـا.. إن الأسرة المصرية تبدو سعيدة أمام أبنائها الصغار وهم يتحدثون اللغة الانجليزية أو الفرنسية أو الألمانية ولا يتكلمون العربية.. ويشعرون بسعادة أكبر والطفل لا يستطيع الكتابة بيديه لأنه لا يستخدم إلا جهاز الكمبيوتر وليس فى حاجة إلى أوراق وقلم..
وبعد جيل أو جيلين سوف نجد فى مصر أغلبية من المواطنين لا يتحدثون اللغة العربية.. لنا أن نتصور هذا الانفصال الرهيب فى تركيبة المجتمع المصرى فى ظل طبقية جديدة صنعتها المدارس الأجنبية والتفاوت الطبقى الرهيب الذى يهدد نسيج هذا المجتمع فى أهم مقوماته.
مع غياب اللغة سوف تختفى أشياء أخرى لا تهتم بها المدارس الأجنبية فى مناهجها ومن أخطرها مادة التاريخ.. إن التاريخ فى التكوين الثقافى والفكرى والإنسانى يمثل ضرورة شديدة الأهمية لأنه ذاكرة الشعوب.. ولنا أن نتصور شعبا بلا ذاكرة وبلا رموز وبلا قدوة.
إن المدارس الأجنبية فى مصر تضع مادة التاريخ فى آخر القائمة، بل إنها تقوم بتدريس تاريخ الدولة صاحبة المدرسة.. إن التاريخ الأمريكى هو الذى يحتل الدرجة الأولى فى مناهج 32مدرسة أمريكية تنتشر فى ربوع مصر ابتداء بحرب الاستقلال وانتهاء بالحروب الأهلية والتاريخ الإنجليزى له الصدارة فى المدارس الانجليزية.
إن زعماء الغرب هم الرمز أمام التلاميذ المصريين.. وفى المدارس الفرنسية أو الألمانية أو الكندية نجد نفس المناهج التى تغوص فى أعماق تاريخ هذه الدول وتحتفى برموزها دون ذكر لرمز مصرى أو عربى باستثناء تاريخ الفراعنة الذى تدرسه كل مناهج العالم الدراسية.
مازال نصيب الطالب المصرى من الانفاق التعليمى لا يتناسب إطلاقـاً مع ما يحدث فى الدول العربية والأجنبية.. إن نصيب الطالب المصرى من ميزانية التعليم 130دولاراً سنوياً بينما يبلغ فى المملكة السعودية 1500دولاراً فى تونس 300دولاراً وفى أمريكا 5000دولاراً وفى طوكيو 7500دولار، هذا هو الفرق بين مخصصات الطالب المصرى والطالب الآخر فى البلدان المذكورة على سبيل المثال.. إن كل دول العالم المتقدم تضع أولوية خاصة للإنفاق على التعليم والبحث العلمى لأن الاستثمار البشرى هو أساس التنمية، وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا تحقق أهدافها إلاَّ فى وجود تنمية بشرية غير قاصرة ومتخلفة..
إن هذه الأجيال هى التى ستتحمل مسئولية الغد فى كل شىء.. نحن سعداء أن يتسلحوا بالعلم وروح العصر الذى يعيشون فيه ولكن الخسارة الكبرى أن نجد على رأس هذا المجتمع أجيالاً مهجنة لا هى عربية ولا هى غربية وهذا ما يحدث الآن ليس فى مصر وحدها ولكن فى كل العالم العربى بأسره.
إن المطلوب الآن هو إنقاذ الهوية التى تختفى أمام أعيننا حيث لا لغة ولا تاريخ ولا أجيال تعرف شيئـاً عن وطنها وتفقد كل يوم الانتماء إليه..
الكارثة تكمن فى أن هذه المناهج موضوعة لتناسب المجتمعات الغربية وبيئتها ولا تُعبِّر بأي حالٍ عن بيئتنا وهويتنا المصرية والإسلامية، والكارثة الأشد أن كل مدرسة تُدرِّس منهجاً ومواد تختلف عن باقى المدارس حسب الجامعة التى تعاقدت معها، مما يؤدى إلى نشأة عدة ثقافات وطبقات اجتماعية متنافرة، ولا يوجد ما يربط بينها، وفى غياب دور رقابى من وزارة التربية والتعليم ومجلس الشعب والمثقفين والوطنيين أصبح التعليم فى مصر مفتوحاً على مصراعيه لمَن يريد الاستثمار..!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق