السبت، 29 أكتوبر 2011

تقرير الشرق الاوسط الجديدرقم 1 ؟؟؟؟؟

نعم إنها لحظات حاسمة؛ فلم يعد هناك بُد من مواجهة الواقع الذي تفرضه والتعامل معه.. ولم يعد هناك مزيد من الوقت يمكن إهداره أو إتلافه في جدل عقيم.
إننا أمام مشروع متكامل يستهدف الهيمنة الأمريكية والغربية على أمتنا، وليس من الحكمة أن نواجه مشروع الهيمنة بمشاريع تم إعادة إنتاجها في وقت نملك فيه بين أيدينا ميراثا حضاريا هائلا، يحمل في طياته وتكويناته مبررات بقائه واستمراره؛ بامتلاكه آلية التجديد والاجتهاد التي تتيح للأجيال المتعاقبة أن تعيش في ظلال حضارتها وميراث نبيها صلى الله عليه وسلم في انسجام كامل وتكيف عجيب مع الواقع المتغير.
إن مشروع الهيمنة الأجنبية الذي يحمل في هذه المرحلة اسم "الشرق الأوسط الكبير" ما هو إلا حلقة من سلسلة ممتدة عبر قرون طويلة، حاولت -وما زالت تحاول- فيها قوى الاستعمار أن تبسط سيطرتها على أمتنا، مستفيدة من الواقع المتخلف الذي تمر به الأمة على كافة المستويات. وإزاء هذه الحلقة الجديدة من المسلسل المستمر تتعرض الشعوب المسلمة لحملات التشكيك واليأس المخطط؛ فما إن تتعرض الأمة لمحنة أو تواجه هجمة؛ حتى يتحمس جمهور المسلمين للنصرة والنجدة، ويرفع الجميع سقف توقعاتهم، حتى إن البعض ربما تصور أن تخرج الأمة من الأزمة وقد تغلبت على جميع أعدائها، وتخلصت من كافة مشاكلها، وعادت بعافية القرون الأولى تنشر الدين، وترفع راية التوحيد؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
ولكن ما إن تمر الأيام حتى يجد المسلمون أنفسهم أمام واقع جديد ومتغيرات مختلفة، وربما أمام سلسلة من الهزائم التي تشيب لها الولدان، وتكون النتيجة أن يسارع جمع غفير من أبناء الأمة ليرجعوا من حيث أتوا وقد انكسرت نفوسهم وخارت عزائمهم، وليعودوا إلى ذواتهم لا يلوون على نصرة، ولا يتحمسون لنجدة، بل ويستسلم كل منهم لليأس والإحباط، لا يأمل في إصلاح، ولا يسعى إلى بناء.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تسرب هذا الإحساس إلى نفر غير قليل من أبناء الأمة؟ ولماذا وجد البعض ضالته في حلول ربما تكون أقرب للخيال منها إلى الواقع، وأقرب للاستسلام منها إلى الجدية في المواجهة، وأقرب إلى التواكل منها إلى التوكل، وأقرب لاعتماد الخرافة منها إلى اعتماد الإيمان واليقين بالله تعالى، وأقرب إلى الحلول الجاهزة والسطحية منها إلى الحلول الجذرية الشاملة؟ إننا أمام واقع متشابك ومتداخل ربما يتبدى للبعض صعوبة حله، ولكن بنظرة دقيقة فاحصة تستحضر سنن الله في خلقه، وتستحضر منهجه الذي ارتضاه لعباده الصالحين.. ندرك أن الحل ممكن، ولكن بعد اكتشاف الخلل وبذل الطاقة والوسع في البناء وتصحيح المسار.
ربما يظن البعض أن حركة الكون وحدها هي التي تسير بحسبان {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}، {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}، ولكن أيضا قوانين قيام الحضارات وسقوطها من سنن الله الغلابة وقوانينه المَهيبة التي لا تتخلف، ولا تجامل أحدا؛ حتى وإن كان في عداد المؤمنين الصالحين، وإن جاملت لكان أولى بها أن تجامل المصطفى والمجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي انتفض عندما بلغته مقولة قوم: إن الشمس خسفت لموت ابنه إبراهيم؛ ليتعالى على أحزانه التي تقاطرت على قلبه الشريف؛ ليقول: "الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله.. فإذا رأيتموهما فصلوا".
وليقرر بديهة لا يعتليها شك ولا يتطرق إليها ريب.. أن لله سننا وقوانين لا تتخلف، ولو حدث لاختل ميزان الكون، ونحن إذ نعيش اليوم زمنا تتوارى فيه أمتنا عن سدة القيادة، ويخفت إشعاعها الذي أضاء حقبا وأزمانا بحاجة لأن ندرك أن شمس حضارتنا الإسلامية لن تبزغ من جديد دون تضحيات هائلة وجهاد شامل ومتواصل { سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً}
إننا بحاجة إلى:
فهم دقيق لواقعنا الذي نمر به وإدراك راشد لطبيعة الطريق وعزيمة ماضية لإعادة البناء وقلوب موصولة بالله لضمان التأييد
قراءة أولية في وثيقة الشرق أوسطية ماذا نحن فاعلون ؟
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وقبل أن تفيق أمتنا من النكبة الثالثة التي تعرضت لها خلال عقود متقاربة؛ بداية بنكبة 48 ومرورا بنكبة 67 وانتهاء بنكبة 2003.. خرجت علينا الولايات المتحدة الأمريكية بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"؛ لتدشن به للنكبة الرابعة الكبرى التي تستهدف إفراغ المنطقة من انتماءاتها وثقافتها؛ لتكون أحد مكونات النظام العالمي الجديد.
ونضع بين يدي هذا المشروع عددا من الملاحظات والوقفات الهامة، ومن ذلك:
- تستهدف فكرة المشروع مواجهة التحديات التي تخرج من منطقة الشرق الأوسط، ومن أبرزها المد الإسلامي المتنامي، حتى بات من المتيقن لدى كافة المحللين والمتابعين أن الظاهرة الإسلامية هي الأقوى والأكثر انتشارًا في العالم العربي والإسلامي، وأن الضغوط التي تمارَس لصالح المشروع الغربي، أو على الأقل لتسكين المشروع الإسلامي، والحد من انتشاره ونموه.. باتت غير ذات أثر؛ وهو ما عناه تحديدًا نص المشروع بقوله: "إن منطقة الشرق الأوسط الكبير تمثل تحديًا للمجتمع الدولي".
- تمثل المنطقة العربية والإسلامية خزانة كبيرة للثروات التي لا يفوت الولايات المتحدة الاستفادة منها، والهيمنة عليها؛ وهو ما أكدته الوثيقة من أن "الشرق الأوسط الكبير يمثل فرصة فريدة للمجتمع الدولي".
- اعتمد المشروع على حقائق ووقائع لا يجادل فيها أحد؛ مثل تدني الدخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ22، وارتفاع نسبة الأمية، وارتفاع نسبة البطالة، وتدني مستويات المعيشة.. إلا أنه غض الطرف عن أسباب التخلف في كافة هذه المجالات، ولم يصرح بأن هذه الأمراض وغيرها التي تعاني منها أمتنا إنما هي إفراز للديكتاتوريات التي زرعتها الولايات المتحدة في المنطقة، وتعهدتها بالري والسقيا حتى كانت حصيلتها كوارث ماحقة أدت إلى التخلف الكارثي الذي تعاني منه الأمة.
وليس أدل على ذلك التورط من الوثيقة التي أفرجت عنها الولايات المتحدة مؤخرًا بشأن العلاقات الأمريكية العراقية أيام حكم الديكتاتور العراقي السابق "صدام حسين"؛ فتورد الوثيقة السرية* نص تقرير صادر من السفارة الأمريكية ببغداد إلى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "ألكسندر هيج" في نوفمبر عام 1983 حول استخدام العراق للأسلحة الكيماوية؛ إذ يُثبت التقرير أن العراق يمتلك الأسلحة الكيماوية، ويستخدمها بصورة شبه يومية، إلا أن كاتب التقرير اعتبر أن الموقف الحرج للعراق في حربه مع إيران يبرر الإشارة السريعة للأمر أثناء المحادثات التي يتم إجراؤها مع العراق بشأن صفقة سلاح جديدة من الولايات المتحدة.
- في إطار الحديث عن الديمقراطية والحرية تشير الإدارة الأمريكية في وثيقتها إلى أن [[إسرائيل|الكيان الصهيوني]] هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير الذي صُنف -وفقًا لتقرير "فريدوم هاوس" للعام 2003- بأنه "حر"؛ وهو ما يؤكد الدور القيادي الذي يتم تهيئة الكيان الإسرائيلي له في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يدل أيضا على أن الولايات المتحدة تجاوزت بمراحل فكرةَ التطبيع مع إسرائيل إلى فكرة قيادتها لقاطرة المنطقة الجديدة.
- يكتسب الاهتمام بوسائل الإعلام أهمية بالغة في خطة الشرق الأوسط الجديد، وهو ما أدركه الحس الوطني خلال الفترة الأخيرة؛ بداية من ظهور مطبوعات تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية أعباء تكوينها وتأسيسها، ناهيك عن ظهور محطة "الحرة" ومجلة "هاي" الشبابية، إلا أن الوثيقة التي أصدرتها الولايات المتحدة بشأن إعادة هيكلة المنطقة في الفترة القادمة أرادت أن تؤكد أيضا على الاهتمام البالغ باستهداف استقطاب المزيد من الإعلاميين والصحفيين للمساهمة في تكريس الهيمنة الأمريكية، والتعامل بها بسياسة الأمر الواقع، واعتبار رفضها أو محاولة تجاوزها ضربا من الوهم، هو أقرب للخيال منه إلى واقع الحياة.
وقد ظهر هذا الأمر في الوثيقة التي أشارت إلى ضرورة عمل زيارات متبادلة للصحفيين في وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية، ورعاية برامج تدريب للصحفيين، وتقديم زمالات دراسية للطلاب كي يداوموا في مدارس للصحافة في المنطقة أو خارج البلاد، على أن تمول برامج لإيفاد صحفيين أو أساتذة صحافة لتنظيم ندوات تدريب.
- تشير الوثيقة إلى الرغبة الأمريكية الكبيرة في تكريس أحادية التدفق الإعلامي والثقافي والفكري من الغرب إلى الشرق الأوسط الجديد، ورغم وجود عقبات كبيرة أمام الولايات المتحدة في هذا الصدد نتيجة قلة بضاعتها في المجال الثقافي والفكري فإنها تطرح هذا الأمر في سياق تعاون أمريكي أوربي.
- تهتم الوثيقة بالتركيز على المجال التعليمي ومناهج التعليم؛ وهو ما طرحت له الوثيقة آلية عملية للتنفيذ السريع والعاجل والمتمثل في تعديل وتغيير مناهج التعليم في العالم العربي والإسلامي بما يتواءم مع الصورة الجدية للمنطقة.
هذه ملاحظات رئيسية على مجمل الخطة الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط الجديد. وإن الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث في الجذور والأبعاد ومحاولات الخروج من الأزمة التي تتشابك فيها الرغبة الأمريكية في الهيمنة على أمتنا العربية والإسلامية، وبين واقع أمتنا المتخلف والمتردي.
الاستعمار.. في ثوبه الجديد
مرت الأمة الإسلامية منذ نشأتها الأولى بمراحل وفترات قوة جعلتها قادرة على قيادة العالم ثقافيا وفكريا، واستطاعت خلال قرون طويلة أن ترسخ لدى شعوب العالم قيم العدل والحرية الحقيقية. وخلال هذه الحقب تمكنت من بناء جسور من الحب مع شعوب العالم التي عاش غالبها في ظل الدولة الإسلامية، سواء آمنت بعقيدتها واتبعت نبيها -صلى الله عليه وسلم- أم احتفظت بما آمنت به.
وقد دفعت هذه القوة إلى تراجع أطماع الأمم الأخرى، والاكتفاء في الغالب الأعم بالدفاع أو حسن الجوار أو تجميد العداء إلى وقت مناسب، إلا أنه منذ تراجع قوة الأمة سياسيا وعسكريا بالفُرقة والتناحر الداخلي، وعلميا بالجمود الفكري والابتعاد عن المنابع الصافية للكتاب والسنة.. منذ ذلك الحين بدأت أطماع الأمم الأخرى تطل برأسها، وبدأت ملامح العداء تعود من جديد؛ فتعرضت إلى موجات من الاستعمار والغزو الخارجي التي فتَّت في عضدها، وساهمت في تكريس تخلفها.
ولعل من أبرز تلك الموجات:
موجة الاحتلال الأولى التي اصطلح عليها المسلمون آنذاك بـ"حروب الفرنجة"، واصطلح عليها الغرب بـ"الحروب الصليبية ".
موجة الاحتلال المغولي وهي لم تبشر بمشروع حضاري أو فكري أو عقائدي ولكنها كانت حملة عدوانية بربرية استهدفت إضعاف قوة الأمة الإسلامية باعتبارها القوة الكبرى في العالم آنذاك.
موجة الاستعمار الحديث وقد امتدت من القرن التاسع عشر الميلادي، وأنهت معها القرن العشرين، واستمرت حتى بدايات القرن الواحد والعشرين، ومن أبرز ما يميز هذه الموجة أنها:
- ممتدة في الزمن لمدة تزيد عن مائتي عام دون انقطاع.
- تحمل رؤية ثقافية وفكرية تسعى إلى فرضها على شعوب المنطقة العربية والإسلامية.
- تمتد أشكال وصور الهيمنة فيها إلى كافة المجالات.. ليست العسكرية فحسب، ولكن الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية والعلمية.
- العمل على الاستفادة إلى أقصى درجة من الثروات الاقتصادية الطبيعية التي تزخر بها المنطقة.
- السعي للحيلولة دون وجود تنمية حقيقية ومستقلة عن الدائرة الاستعمارية.
- محاولة إضعاف حركات التحرر الوطني الإسلامي التي تسعى لإحداث عمليات تنمية اقتصادية وفكرية وثقافية وعقائدية بمعزل عن الدوائر الاستعمارية.
- التخطيط لإحداث نوع من الإحباط واليأس لدى الأمة وقواها الفاعلة من القدرة على تحقيق تنمية بعيدة عن السياق الاستعماري.
- استهداف صناعة نخب سياسية واقتصادية وثقافية ترتبط مصالحها بدوائر الاستعمار. وإذا كانت هذه أبرز ما يميز الحقبة الاستعمارية الحديثة والمعاصرة؛ فإن السؤال الذي يطرح نفسه سريعًا هو:
ما المقصود بامتداد المرحلة أو الحقبة الاستعمارية الحديثة من أوائل القرن التاسع عشر الميلادي وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين؟ وهل يعني التسليم بهذه المقولة أن نراجع مفاهيم الاستقلال الوطني ومرحلة بناء الدولة الوطنية التي مرت بها بلادنا في المنطقة العربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ؟
وما نطرحه ردًا على هذا السؤال المشروع أن الحقبة الاستعمارية الحديثة والمعاصرة مرت بعدد من المراحل، واختارت عددًا من النماذج التي تباين بعضها حينًا واتفق أحيانًا، إلا أنها في كل الأحوال لم تخرج عن التوصيف العام للحالة بأنها حالة استعمارية من الدرجة الأولى.
فهناك عدد من النماذج الاستعمارية التي تباينت بصورة أو أخرى لكنها اتفقت في المجمل العام، وقد ظهر كل نموذج منها في مرحلة تاريخية معينة خلال هذه الحقبة الاستعمارية الممتدة، ومن أبرز هذه النماذج:
(1) النموذج الاستعماري البريطاني: وينسب هنا النموذج لبريطانيا؛ لأنها أبرز الدول الاستعمارية التي مارسته بصورة واضحة، وتميز بالتالي:
- سيطرة عسكرية مركزية على البلدان المستعمرة من خلال قواعد إستراتيجية؛ فهي لا تعتمد السيطرة العسكرية الشاملة، وإن كانت تلجأ إلى الاستعمار الشامل والتواجد العسكري واسع النطاق في البداية، ولكنها في مرحلة تالية تقلص تواجدها العسكري من خلال قواعد إستراتيجية تسمح لها بحماية مصالحها والتدخل المباشر عند الضرورة.
- امتصاص ثروات الشعوب ، وإحداث نوع من التبعية الاقتصادية، والتمحور حول اقتصاد الدولة المستعمرة.
- تشكيل وتكوين النخب الثقافية والفكرية المتمحورة حول ثقافة الدولة المستعمرة؛ وهو ما يعني مزيدًا من الاهتمام بالتعليم الخاص والأجنبي الذي يركز على ثقافة المستعمر، ويضعف بصورة واضحة الثقافة المحلية.
- إضعاف مراكز الإشعاع الثقافي الوطني التي تسعى إلى بعث الثقافة الإسلامية الوطنية والتيئيس من قدرتها على إحداث نوع من التنمية الحقيقية.
- خلق إدراك ثقافي وتربوي لدى الأجيال بأن التنمية الحقيقية لا تؤتي ثمارها إلا من خلال التمحور حول ثقافة المستعمر.
- السماح بحرية تشكيل الأحزاب وإصدار الصحف بشرط ضمان وجود أحزاب ونخب ثقافية وسياسية تدور في فلك الاستعمار وقادرة في الوقت نفسه على منافسة فلول الأحزاب والنخب الثقافية والسياسية الوطنية.
(2) النموذج الاستعماري الأمريكي: وينسب هذا النموذج للولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها تعد -بلا منازع- صاحبة هذا النموذج الذي ظهر على أرض الواقع عقب الحرب العالمية الثانية مقترنًا بالتفوق الأمريكي، وتسلم دفة الأمور بعد خفوت نجم بريطانيا وفرنسا كدولتين استعماريتين.
وقد تميز هذا النموذج بالتالي:
- الرغبة في عدم خوض معارك عسكرية مباشرة وعدم تأكيد الصفة الاستعمارية، وحال الضرورة يمكن أن تشن حروبًا بالوكالة؛ مثال:
عدوان 1967 .
احتلال لبنان
الحرب العراقية الإيرانية .
حركات التمرد في الجنوب السوداني.
- تركيز الاهتمام على النخب السياسية بصورة أكبر من النخب الثقافية، ودفع هذه النخب بعد صياغتها وفقًا للمواصفات الأمريكية إلى سدة الحكم والتأثير، أو التعامل مع النخب السياسية المرشحة لأدوار محورية في بلدانها، والتي قد تصل إلى الحكم من خلال تفاعلات داخلية محضة، وفقًا لدراسة دقيقة للمسارات النفسية والاجتماعية والثقافية لهذه النخب.
- تحقيق أقصى استفادة ممكنة من النخب السياسية الحاكمة في البلدان العربية والإسلامية، وإضفاء الشرعية على وجودها وبقائها في سدة الحكم، حتى وإن افتقدت هذه النخب الشرعية لدى عموم شعوبها.
- غض الطرف عن الممارسات القمعية للأنظمة الديكتاتورية ما دامت مدركة للخطوط الحمراء، وما كانت مبتعدة عن المساس أو التفكير في المساس بالمصالح الأمريكية المباشرة.
- السير حثيثًا في اتجاه تشجيع الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي على إضعاف الثقافة الإسلامية بصورة تدريجية حثيثة وفاعلة على المدى البعيد؛ وذلك من خلال اعتماد سياسة تجفيف منابع الثقافة الإسلامية.
- إذكاء روح الإقليمية والقُطرية بين البلدان العربية والإسلامية، والتعامل مع مفردات المنظومة العربية في سياق غير مترابط يمكن الولايات المتحدة من التعامل مع كل مفردة أو دولة كحالة خاصة.
(3) عودة إلى النموذج البريطاني المعدل: ويبدو أن الولايات المتحدة فضلت نموذجها الذي دشنت له مع فراغها من ضرب "هيروشيما وناجازاكي" في الحرب العالمية الثانية ، واستمرت في تفضيلها حتى نهاية القرن العشرين، ولكنها مع بداية القرن الجديد حرصت على البحث عن نموذج جديد، بعد أن رأت أن هناك بعض المثالب في النموذج الذي فضلته عقب الحرب العالمية الثانية ..
ومن الواضح أن هناك أسبابًا عدة كانت وراء هذه المراجعة التي تمخض عنها التطلع إلى نموذج جديد، ربما يكون هو نفسه النموذج البريطاني القديم بحذافيره، وربما أدخلت عليه الولايات المتحدة بعضًا من التفاصيل والفروقات، وربما تدشن لنموذج جديد يختلف بالكلية عن النماذج المذكورة. ومن بين الأسباب التي نرى أنها كانت وراء الرغبة الأمريكية في إعادة النظر في النموذج الأمريكي القديم.. فشل الأنظمة العربية التي عول عليها النموذج الأمريكي الكثير في تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية على الوجه الأمثل، وربما من أبرز ملامح هذا الفشل:
- عدم القدرة على تحقيق الأمن الكامل للكيان الصهيوني، وقد بدا هذا واضحًا في عجز الأنظمة العربية في إبرام اتفاقيات سلام حقيقية وفاعلة مع الكيان الإسرائيلي تتسم بصفة الشعبية والجماهيرية.
- عدم قدرة الأنظمة العربية على إقناع شعوبها بضرورة ووجوب قبول الكيان الإسرائيلي في المنطقة.. ليس فقط من خلال اتفاقيات وتعايش سلمي، ولكن من خلال إعادة هيكلة المنطقة في صورتها الجديدة التي تقود قاطرتها دولة الكيان الإسرائيلي.
- تفوق المشروع الثقافي الإسلامي على المشروع العلماني على المستوى الشعبي بصورة واضحة رغم عمليات الإجهاض المستمرة على كافة المستويات من قبل الأنظمة الحاكمة، ورغم التغاضي الهائل عن الانتهاكات الشاسعة والواسعة لحقوق الإنسان من جانب الولايات المتحدة.
ورغم هذه الانتهاكات من جانب الأنظمة والتغاضي من الجانب الآخر؛ فإن التفوق الشعبي للمشروع الإسلامي أصبح لافتًا للنظر ومتعاظمًا على الاحتواء.
- ازدياد الهواجس لدى الولايات المتحدة من عدم القدرة على الحفاظ على الثروات البترولية العربية الهائلة بما تشكله من احتياطات كبيرة.
- بروز بعض المطامع الشخصية لدى بعض الأنظمة العربية، ومن أبرزها أطماع النظام العراقي السابق في الاستيلاء على الكويت .
- عجز الأنظمة العربية عن القضاء على البيئة التي ينمو فيها فكر العنف المسلح رغم نجاح بعض الأنظمة العربية في كبح جماح هذه الجماعات ذات المرجعيات الإسلامية؛ الأمر الذي وصل إلى خروج الأمر عن السيطرة لتتطور الأحداث وتصل إلى قمتها مع أحداث 11 سبتمبر 2001 م.
هذه بعض الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى أن تفكر بصورة جدية في تغيير النموذج الاستعماري الأمريكي الذي تبنته منذ الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر القرن العشرين لتدشن لنموذج جديد ربما يشكل عودة إلى النموذج البريطاني القديم، وربما يكون تطويرًا له.
آليات الهيمنة
كلما ازدادت وطأة الهيمنة الأمريكية على المنطقة زاد اللغط والحديث عن طبيعة هذه الهيمنة، وهل هي حرب صليبية جديدة ذات طبيعة دينية أم أنها هجمة استعمارية؟ وهل هي معركة محدودة لا تجاوز حدود فلسطين وبغداد مضافًا إليهما ما أسمته الولايات المتحدة محور الشر؟ أم أنها مرشحة للامتداد لأقطار المنطقة كلها؟ بل إن الجدل بدأ يتسع بصورة كبرى ليتيح الفرصة لمزيد من التساؤلات، ويطرح مزيدًا من القضايا، من أبرزها ما يلفت الأنظار إلى وجود معركة داخلية متوازية مع معركة الخارج تتمثل في منظومة: التخلف والديكتاتورية والجهل.
وحتى نجيب على هذه التساؤلات أو نطرح رؤيتنا حولها يمكن أن نصنفها إلى عدد من المحاور:
[1] استعمارية أم دينية؟
[2] فكرية ثقافية أم عسكرية؟
[3] داخلية أم خارجية؟
[4] محلية أم دولية؟

[1] استعمارية أم دينية؟
كثيرًا ما يطرح البعض هذا السؤال، ويضع له على طريقة الامتحانات الأمريكية اختيارين (استعمارية - دينية).. ويبدو أن الإجابة تحتاج إلى شيء من التحرر من الطريقة الأمريكية؛ وهو ما يستدعي نوعًا من التفكيك لمصطلح الحرب الدينية أو الصليبية وعلاقته بطبيعة المواجهات الدائرة والمتوقعة في المنطقة، إننا نستطيع أن نفهم طبيعة المعركة مع تحديدنا لمقصدنا من الحرب الصليبية أو الدينية: - فإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الولايات المتحدة تسعى إلى نشر العقيدة المسيحية لتحل بدلا من العقيدة الإسلامية؛ فإننا نقول: إن هذه الحرب ليست صليبية بهذا المعنى؛ فالولايات المتحدة لا تسعى بحال إلى نشر المسيحية، ولا يندرج هذا في خططها الحالية أو المستقبلية.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية بأن هناك دوافعَ دينية لدى مساحة متزايدة في الإدارة الأمريكية تستدعي مفاهيمَ دينية وأحقادًا تاريخية ضد الإسلام والمسلمين؛ فهي فعلا بهذا المعنى حرب دينية، وهو ما تعلنه الإدارة الأمريكية بصورة واضحة دون لبس ولا مواربة.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن هناك مواجهة شاملة بين مسيحيي العالم بكافة فصائلهم وعقائدهم ومذاهبهم ضد جميع المسلمين على اختلاف دولهم وأوطانهم.. فالواقع خلاف ذلك؛ فهناك فصائل مسيحية ومذاهب وطوائف مسيحية ترفض معارك الهيمنة الأمريكية، بل وتقف أمامها حجر عثرة، وتشكل معارضة قوية لأهدافها.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الإدارة الأمريكية تعتمد خطابًا دينيًا لتحفيز جنودها الذين يفتقدون ما يدفعهم إلى التضحية بأرواحهم وأنفسهم في أتون هذه المعارك.. فأعتقد أن هذا أمر صحيح، وهو ماثل من خلال وقائع قوية تؤكده.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الإدارة الأمريكية ترفض عقيدة التوحيد، وتسعى لخلخلتها عن واقع المجتمعات الإسلامية؛ فهذا أمر يخالف الواقع ولا يرتبط به.
- إذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الإدارة الأمريكية تدرك خطورة العقيدة الإسلامية التي تدفع أصحابها إلى عبادة الله وحده والانصياع له وحده دون غيره، سواء كان صنمًا أو بشرًا أو حضارة، وأنها تدفع أصحابها إلى العزة ورفض الذل أو الخنوع والخضوع.. فهذا قول له وجاهة كبيرة، ويقدم تفسيرًا للمخاوف التي تتملك الغرب من المسلمين؛ إذ يدركون أن الإسلام يحمل طاقة ذاتية دافعة إلى العزة ترفض الاحتلال والخنوع.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الإدارة الأمريكية ترفض بعضًا من معطيات الشريعة الإسلامية خاصة تلك المساحات التي تحمل تميزًا عن الحضارة الغربية، وتتعارض مع بعض معطياتها؛ فهذا أيضًا يقدم تفسيرًا للرفض الأمريكي لبعض ملامح الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات. - وإذا كنا نقصد بالحرب الدينية أن هناك عددا من جماعات التبشير تسعى لاستغلال التفوق الأمريكي والغربي وضعف البنية الاقتصادية لدى دول عربية وإسلامية للنفاذ إلى الأمة، ومحاولة صدها عن دينها فهو أمر له شواهد من الواقع.
وفي مجمل الكلام عن هذه القضية نجد أنفسنا إزاء معركة حقيقية تستهدف الهيمنة الاستعمارية على بلادنا العربية والإسلامية وامتصاص ثرواتها وتحقيق أقصى فائدة ممكنة من إمكاناتها ومقدراتها. وهي معركة تلعب العقائد فيها دورًا لا يمكن إغفاله من خلال:
- قناعات فكرية لدى طائفة وجدت لها مكانًا في مقدمة المعركة داخل الإدارة الأمريكية.
- حافز معنوي لمعارك استعمارية تستهدف تحقيق استفادة لقطاعات رأسمالية داخل المجتمع الأمريكي، وتفتقد إلى الشرعية الدولية والأسس الأخلاقية؛ لذا يطفو على السطح الحافز الديني ليملأ فراغًا.
- مخاوف من طبيعة العقيدة الإسلامية التي ترفض الخنوع، وتفهم عبادة الله على أنها تتنافى مع عبادة وطاعة مَن سواه.
- خلاف فكري مع معطيات الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات.
- رفض الشعوب الإسلامية لهيمنة أي دولة غير إسلامية؛ إدراكًا منها أن الهيمنة الاستعمارية تنطوي على تراجع ثقافة وعقائد البلاد الواقعة تحت الاحتلال أو الاستعمار لحساب ثقافة المستعمر، وهي معادلة طبيعية ومنطقية.
- معركة استعمارية تستهدف الحفاظ على السيطرة الأمريكية على العالم بعد الفراغ من كتلة رئيسية تملك من المقومات العقائدية الثقافية ما يدفعها إلى رفض الهيمنة والاستعمار.

[2] فكرية ثقافية أم عسكرية؟
قد لا نجد أنفسنا حائرين إذا أردنا أن نثبت الشق العسكري في المعركة.. فقد ظهرت فصولها جلية واضحة في العراق، وما زالت فصولها مستمرة في فلسطين، أضف إلى ذلك أيضا تلك القواعد العسكرية التي يصرح المسئولون في الإدارة الأمريكية ببقائها واستمرارها وتوسيعها لتشمل العراق الجديد بالإضافة إلى دول الخليج.
ولكن هل تقتصر المعركة على الشق العسكري أم أن هناك أبعادًا أخرى تتعلق بالمجال الثقافي والفكري؟ ولا شك أن البعد العسكري يتم استعماله أحيانًا لتحقيق الأهداف والوصول إلى نتائج سريعة، إلا أن استعماله في غالب الأحوال يظل في إطار الردع والإرهاب، على أن يتم إفساح مجال واسع للدور الثقافي والفكري ليقوم بمهامه على نطاق واسع في جميع بلدان المنطقة، ولا شك أن هذا الدور سيتفاعل سريعًا تحت وطأة الإرهاب العسكري وقوة الردع القابعة في أكثر من بلد عربي، خاصة أن ما خلفته من دمار وخراب ماثل للأعين.
وإذا أردنا أن نرصد محاولات التغيير والتأثير ذات الطابع الثقافي القيمي فلا نستطيع أن نقف عند حدود العقود الأخيرة؛ فالجهود في هذا المجال مستمرة، وتم تناوبها بداية من التدخل الفرنسي في المنطقة أواخر القرن الثامن عشر، ومرورًا بالسيطرة البريطانية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، ونهاية بالدور الأمريكي الذي بدا واضحًا في النصف الثاني من القرن العشرين من خلال الأمم المتحدة .
ورغم هذا الدور المتتابع فإن العقود الأخيرة شهدت تصعيدًا واسعًا في مجال التدخل والتأثير الثقافي والقيمي، وقد بدا ذلك واضحًا في مؤتمرات: نيروبي 1985 ، ومؤتمر الطفل في نيويورك عام 1990 ، ومؤتمر البيئة والتنمية في ريودي جانير عام 1992 ، ومؤتمر حقوق الإنسان في فيينا عام 1993 ، ومؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة عام 1994 ، ومؤتمر التنمية الاجتماعية في كوبنهاجن عام 1995 . وقد ساهمت هذه المؤتمرات مجتمعة في المطالبة بحصول الشواذ على حقوقهم، وإعادة تعريف تقسيم الأدوار الاجتماعية على أساس نوعي (جندر)، بالإضافة للحقوق الجنسية وحق الإجهاض.. وهو ما يعني التعارض التام والكامل مع القيم الأساسية والثقافية في العالم العربي والإسلامي التي تعتبر الأسرة هي الشكل الوحيد الذي ينظم العلاقة بين الرجل والمرأة، وأن أي ممارسات جنسية تتم في غير إطار العلاقة الزوجية تعد غير مشروعة ومرفوضة اجتماعيًا ودينيًا.
ولا شك أن مناهج التعليم ستشهد نوعًا من التغير الواضح والبين في اتجاه ترشيح المفاهيم الجديدة عن الأسرة والعلاقة بين الجنسين، بالإضافة إلى ممارسة الإرهاب الفكري تارة، وربما يصل الأمر إلى الإرهاب العسكري أو الاقتصادي والسياسي بدعوى مخالفة مواثيق الأمم المتحدة ، تلك المواثيق التي تنتهكها الولايات المتحدة بجدارة، ولكنها لا تتنازل عن تسليم دول العالم الثالث المطلق لها. وقد بدأت بالفعل عمليات الإرهاب ضد عدد من دول العالم، من ذلك:
في فبراير 1999 اتهمت لجنة وثيقة [Cedaw] الحكومة الكولومبية بالتمييز ضد النساء لرفضها منحهن حق الإجهاض، كما نصحت اللجنة نفسها حكومة ميزفيزستان بإعادة تعريف السحاق باعتباره توجهًا جنسيًا وإلغاء العقوبات على ممارسته.
وليس من المستبعد أن تسعى الولايات المتحدة خلال المرحلة القادمة إلى توجيه ضربات عسكرية أو على الأقل التهديد بها للدول التي ترفض الانصياع لقرارات الأمم المتحدة أو الرغبة الأمريكية المتعلقة بالشأن الثقافي والقيمي، وليس فقط ما يتعلق بالديمقراطية أو أسلحة الدمار الشامل.

[3] داخلية أم خارجية؟
رغم كافة التحديات والمخاطر التي ظهرت وما زالت مرشحة للظهور على الصعيد الخارجي متمثلة في عمليات الاحتلال العسكري السافر أو التهديد بالقوة العسكرية أو الضغوط المتزايدة لإعادة هيكلة الأمة اجتماعيًا وثقافيًا وتعليميًا.. فإننا قد نتجاوز الإدراك الصحيح لمعطيات الواقع إذا سلمنا بأن الأخطار الخارجية هي وحدها التي تهدد كيان الأمة العربية والإسلامية.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى ما قبل القرنين الأخيرين اللذين شهدا سطوة غربية استعمارية على العالم العربي والإسلامي؛ لوجدنا أن الهجمة الاستعمارية جاءت وعاشت خلال القرنين الأخيرين في بيئة محلية قابلة للاستعمار وعاجزة عن مقاومته مقاومة حقيقية، وأن الأمة فقدت من مقومات بقائها وتميزها ما جعلها قابلة للاستعمار عاجزة عن مواجهته بصورة حقيقية ونهائية وشاملة، وظلت محاولات البناء وإعادة الهيكلة إما قاصرة عن إدراك الأسباب الحقيقية للمشكلة، وإما مدركة لهذه الأسباب ولكنها تتحرك تحت ضغوط هائلة على كافة المستويات، ربما يكون المستوى الخارجي أهونها وأقلها تأثيرًا وخطورة.
يكفي أن الأمة أنفقت خلال القرنين الماضيين عقودًا طويلة حتى تدرك أنها أمام واقع استعماري شامل يحمل معه البوارج العسكرية مقرونة بوسائل الإعلام والسينما والمدرسة لإحداث خلخلة في بنية المجتمعات العربية والإسلامية وفي مفاهيمها وهويتها وولاءاتها؛ لذلك فإن عمليات الغزو العسكري كانت منطقية، والسيطرة الكاملة على المفاهيم والثقافات كانت -وما زالت- مبررة ووجيهة في ظل معطيات لا بد أن توصل إلى ما نشاهده ونراه من نتائج.
ما هي المخاطر التي تهدد كيان الأمة على المستوى الداخلي، وتشكل عوامل نخر في بنيتها ربما لا تقل في خطورتها وتأثيرها عن المخاطر الخارجية الاستعمارية؟
ولعل من أبرز تلك المخاطر وأكثرها تأثيرًا في تكريس الواقع المتردي الذي تعايشه الأمة:
التخلف الاقتصادي والتنموي.
التخلف العلمي والتقني.
التخلف الإيماني والتربوي.
التخلف المفاهيمي والمعرفي والتعليمي.
التخلف السياسي.
التفرق والأنامالية.
التخلف الأخلاقي والقيمي.

التخلف الاقتصادي والتنموي:
ونعني به عدم وجود رغبة لدى شعوب المنطقة العربية في إحداث تنمية حقيقية محلية، رغم أنها تمتلك الإمكانيات الملائمة لإحداث هذه التنمية سواء من موارد بشرية أو طبيعية، ولكنها فقط تفتقد الإرادة لإحداث هذه التنمية، ولا نقصد بذلك افتقاد الإرادة السياسية التي تخطط للتنمية فقط، ولكن أيضًا افتقاد الإرادة الجمعية الشعبية لتخطي حاجز التخلف الاقتصادي، وعدم الرغبة أو الاستعداد لتصحيح وبناء نموذج تنموي مستقل يتناسب مع طبيعة المنطقة، وينبع من داخلها؛ مما أدى إلى اعتماد النماذج الجاهزة، وأكثرها جاهزية النموذج الغربي المرتبط في الغالب بالاستعمار؛ لذا فقد جاء الاستعمار الاقتصادي بهذه الصورة ليملأ فراغًا موجودًا بالفعل بعد أن نحينا نحن بأيدينا نموذج التنمية المستقلة النابعة من ذاتيتنا وثقافتنا، وعندما جاء النموذج الغربي وجد فراغًا؛ فكان من الطبيعي أن يملأه.
وليس أدل على ذلك مما نقله كولن باول وزير الخارجية الأمريكي عن تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 م، الصادر عن الأمم المتحدة من أن "حوالي 14 مليون راشد عربي يفتقرون إلى وظائف هم بحاجة إليها لوضع طعام على موائدهم وسقوف فوق رؤوسهم وأمل في قلوبهم، وسيدخل زهاء 50 مليون عربي آخر من الشبان والشابات سوق الوظائف -المزدحمة أصلا- خلال الأعوام الثمانية القادمة"، مؤكدًا أن "الاقتصادات لا تولد ما يكفي من الوظائف؛ فالنمو ضعيف، والناتج المحلي الإجمالي لـ260 مليون عربي هو أقل مما ينتجه 40 مليون أسباني، كما أنه آخذ في التدهور، وإذا أضفنا إلى ذلك إنتاج 67 مليون إيراني تبقى النتيجة مجرد ثلثي الناتج الإيطالي".
- ووفقا لدراسة نشرها موقع "الجزيرة" على الإنترنت فإن الفقر يمثل أحد أهم التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية؛ فعلى مستوى العالم -الذي يعتبر نصف سكانه من الفقراء- يعيش نحو 1.3 مليار إنسان تحت خط الفقر. وفي العالم الإسلامي يعيش 37% من السكان تحت مستوى خط الفقر؛ أي ما يعادل 504 ملايين شخص تقريبا، وتبلغ نسبتهم إلى فقراء العالم 39%، وهذا يعني أن أكثر من ثلث سكان العالم الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر يسكنون دول العالم الإسلامي.
التخلف العلمي والتقني:
تخطئ الحضارة الغربية عندما تريد أن تقنع العالم بأنها صاحبة الفضل وحدها في الثورة العلمية الهائلة التي يشهدها العالم، وكأنها جاءت في سياق منفصل عن السياق الحضاري المتراكم عبر الحضارات السابقة، ولكننا نخطئ أكثر منها عندما نصدق هذا الوهم، ونتصور أن اطلاعنا على معطيات الثورة العلمية الحديثة نوع من التبعية يصيبنا بالهزيمة النفسية ويدفعنا إلى التسليم الكامل للحضارة الغربية على اعتبار أننا ما إن أخذنا الجانب العلمي فعلينا أن نأخذ الشق الأخلاقي؛ باعتبارهما متلازمين ومرتبطين لا ينفك أحدهما عن الآخر.
والحقيقة أن النموذج القيمي والأخلاقي الغربي ليس جزءا من النموذج العلمي.. فالأول هو وليد الحضارة الغربية بكافة مكوناتها وتشكيلاتها، والثاني نتاج تراكم جهود حضارية بذلتها البشرية كلها على مر العصور وباختلاف المواقع.
فنحن لسنا ملزمين عندما نواكب التطورات العلمية والتقنية التي تشكل مجمع العطاء الإنساني والبشري أن نأخذ الإطار القيمي والأخلاقي للحضارة الغربية على وجه التحديد، وإلا فلماذا لا نأخذ مع التقنية المتطورة المنظومة القيمية والأخلاقية للشعب الياباني أو الشعب الصيني، رغم أن كلا النموذجين (الياباني والصيني) له خصوصية أخلاقية وقيمية ليست متطابقة أو متماثلة مع مثيلتها الأوروبية أو الأمريكية.
وفي كل الأحوال ووفقا لكافة التفسيرات تظل الحقيقة التي لا نملك أن نتصادم معها أن أمتنا متخلفة على المستوى العلمي والتقني، وهاهي دراسة علمية تكشف أن المواطن العربي ينفق قرابة 3 دولارات فقط للفرد على البحوث؛ وهو ما يعني اتساع الفجوة الرقمية بين البلدان العربية والدول الصناعية المتقدمة نتيجة تدني مستويات الإنفاق العربي على مجالات البحث والتطوير.
وبالمقابل –كما تؤكد الدراسة التي أعدها الدكتور عزت قناوي مدرس الاقتصاد بالمعهد العالي للدراسات النوعية بالجيزة– يقفز معدل الإنفاق على البحث العلمي للفرد في الدول الغربية إلى 409 دولارات في ألمانيا، و601 دولار في اليابان، و681 دولارا للفرد الأمريكي.
كذلك كشفت دراسة أخرى صدرت عن مركز دراسات الدول النامية بجامعة القاهرة تحت عنوان: "مستقبل علاقات القوى الاقتصادية في الشرق الأوسط" عن أن الإنفاق على البحث والتطوير بلغ 1.8% من إجمالي الناتج المحلي في إسرائيل، بينما لم يتجاوز 0.2% في كل الدول العربية، كما تجاوز عدد الدوريات العلمية الصادرة في إسرائيل أكثر من ضعف ما يصدر في الدول العربية كلها(370 للأولى ،و173 للثانية).
ورصدت الدراسة ما سجله الإسرائيليون من براءات اختراع في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، موضحة أنها بلغت 139 براءة اختراع، فيما لا توجد براءات اختراع مسجلة بأسماء عربية، وذلك وفقًا لبيانات سنة 1999 م.
- وفي المقابل فإن هذا التخلف التكنولوجي الواضح لا يعني أننا نفتقد الإمكانات البشرية الحقيقية التي يمكنها أن تصنع تنمية علمية حقيقية، ولكننا نفتقد في الغالب السياسات والمؤسسات العلمية التي تستوعب الطاقات البشرية والخبرات العلمية المتميزة التي تهاجر يوما بعد يوم، وتفر من منظومة متخلفة لتجد نفسها بين يدي منظومة تستوعب إمكاناتها وتوظفها التوظيف الأمثل، ولكن بعيدًا عن أرض الوطن، وهاهو تقرير أصدرته الجامعة العربية عام 2001 حذر من أن العالم العربي خسر 200 مليار دولار بسبب هجرة الكفاءات العلمية والعقول العربية للدول الأجنبية.
ووصف التقرير التقدم العلمي والتكنولوجي الإسرائيلي على العرب بأنه "كارثة جديدة تهدد مستقبل الشعوب العربية"، مؤكدًا أن إسرائيل تفوقت في السباق العلمي مع العرب عن طريق إغراء العلماء الأوروبيين والأمريكيين وتوطينهم داخل إسرائيل، في الوقت الذي تتزايد فيه هجرة العلماء العرب إلى الخارج، وفشلت الدول العربية حتى الآن في استعادتهم أو الاستفادة منهم.
ونذكر على سبيل المثال ما جاء في إحصائية صادرة عن المشروع القومي لتنمية بيانات المصريين المتميزين أن هناك ‏824‏ ألف عالم وخبير مصري في الخارج‏,‏ من بينهم ‏318‏ ألفا في الولايات المتحدة‏,‏ و‏110‏ آلاف في كندا‏,‏ و‏70‏ ألفا في أستراليا‏,‏ و‏336‏ ألفا في دول أوروبا‏.‏
وذكر إحصاء صادر عن الجهاز المركزي المصري للإحصاء أن هناك ‏2455‏ عالما في التخصصات الحرجة والإستراتيجية مثل الطب‏,‏ والطب النووي‏,‏ والعلاج بالإشعاع‏,‏ والهندسة النووية‏,‏ وعلوم الفضاء‏,‏ والهندسة الوراثية‏,‏ إلى جانب رجال الأعمال أصحاب المشروعات العملاقة والتكنولوجيا المتطورة. وعندما نتكلم عن التخلف العلمي والتقني في منطقتنا العربية والإسلامية ندرك أننا تعاملنا معه بصورة مبتورة ومشوشة، تعتمد على:
- نقل مخرجات التقنية العلمية دون تركيز على مدخلاتها وأسسها.
- استهلاك التقنية، وليس البحث عن وسائل الواقع المحلي وخصوصيته.
- الدمج غير المبرر بين التقنية العلمية والحضارة الغربية في إطارهما القيمي والأخلاقي، والتعامل معهما على أنهما منظومة واحدة لا تتحقق التنمية الحقيقية إلا من خلال التعامل معهما جملة واحدة، متناسين أن الشق التقني إنساني في المقام الأول ساهمت فيه حضارتنا الإسلامية بدور بارز خلال أحقاب سابقة، وساهم فيه الغرب اليوم بدور بارز، وتساهم الأمم الأخرى أيضًا فيه بدور لا يقل أهمية.
- عدم وجود دافعية سواء على مستوى القرار السياسي أو الرغبة الجماهيرية في بناء منظومة علمية وتقنية، تناسب واقعنا، وتساعد على إحداث تنمية ذاتية محلية تلتقي مع التطورات التقنية الحديثة، وتحتفظ لنفسها بسمت خاص.
- عدم توفير بيئة علمية ملائمة لرعاية النوابغ والكوادر العلمية المتميزة؛ مما يدفعها إما إلى القنوط واليأس والإحباط، أو الخروج إلى دولة صناعية متقدمة تمتلك بيئة علمية مناسبة، ولا شك أن حالة الخروج بهذه الصورة لا تشكل ظاهرة صحية؛ إذ تكون مفعمة بالتجارب المريرة التي تدفع صاحبها إلى الاندماج في منظومة النموذج الغربي بكافة تشكيلاته وتفاصيله.

التخلف الإيماني والتربوي:
فقد سبق أن واكبت واستمرت مع الهجمة الاستعمارية الحديثة خلال القرنين الأخيرين ظاهرة تركت بصماتها واضحة وجلية على الأمة، وصنعت فيها فراغًا جعلها مهيأة وقابلة للاستعمار.. تلك هي ظاهرة التخلف الإيماني والتربوي التي منيت بها الأمة، ومن أبرز مظاهرها:
- تراجع دور المساجد وانحساره في تأدية العبادات، وحتى هذا الدور شهد تراجعًا ملحوظًا في رواد المساجد والمقبلين عليها؛ مما شكل خطورة هائلة على المفاهيم الإيمانية التي كان للمسجد دور بارز ومهم في تزكيتها من خلال حلقات الذكر وقراءة القرآن ودروس العلم والاجتماع على الصلاة خمس مرات في اليوم، فلم يعد المسجد الرمز الذي يلجأ إليه المسلمون، ويؤوبون إليه أوقات الرخاء، ناهيك عن أوقات الشدة.
- تراجع دور العلماء في التأثير وانحسار دورهم داخل المساجد تحديدًا في أداء الشعائر فقط، في الوقت الذي ظهرت فيه وسائل الإعلام وثورة الطباعة التي اعتمدت في مادتها على مفاهيم حضارية مادية؛ مما ساعد على سيادة الخطاب المادي والاستهلاكي على الخطاب الإيماني والتربوي الذي قبل التراجع إلى جدران المساجد..
وقد دفع إلى عجز العلماء عن صياغة هذا الخطاب الإيماني المرتبط بالواقع عدد من العوامل، منها: - عجز المناهج التعليمية في عدد من المؤسسات التعليمية الدينية عن تطوير نفسها وتحديث أساليبها؛ مما جعلها في كثير من الأحوال جامدة عاجزة عن بناء شخصية إيمانية فاعلة على أرض الواقع.
- شيوع مقولة إغلاق باب الاجتهاد الذي فتحه الإسلام بشروطه من العصر النبوي الأول والذي لا يملك أحد أن يغلقه أو يواربه، وبالتالي اعتمدت مناهج التعليم التي تخرج العلماء على المتون والشروح التي كتبها أصحابها لأبناء عصورهم، وكانت بحاجة إلى من يمتص رحيقها ليعيد عرضها بطريقة تستوعبها وتتفهمها أجيال جديدة. ولعل هذه المقولة تطرح علينا سؤالا يحتاج إلى إجابة: لماذا كتب علماؤنا في حقب زمنية متعاقبة رسائل علمية حول عناوين يتقارب بعضها مع البعض الآخر؟ وليس لذلك معنى سوى أن كل عالم كان يكتب بلغة عصره، ويمتص رحيق من سبقه ليكتب من جديد بلغة عصره، وقد فتح هذا الجمود الباب واسعًا أمام النخب العلمية المتقربة إلى تقليل أهمية البناء والتكوين الإيماني والتربوي، وإشاعة ثقافة التحلل والتراجع القيمي والتربوي والإيماني نتيجة فراغ الساحة أو ضعف البنية التعليمية الإيمانية.
- تراجع المفاهيم الإيمانية الصافية المستمدة من الكتاب والسنة على حساب مفاهيم ظاهرها التدين وباطنها التخلف، فانتشرت الخرافة والسلبية والتواكل، ولكنها في الوقت نفسه ارتدت عباءة التدين؛ فكانت خطورتها على الأمة أشد مما يفعله أعداؤها.
التخلف المفاهيمي والمعرفي:
وقد لمسنا بعضًا من ذلك في تخلف مناهج التعليم في المعاهد الدينية، إلا أن دائرة التخلف كانت أوسع من ذلك؛ حيث وصلت إلى مناهج التعليم بصورة عامة التي افتقدت رؤية حضارية أو منظومة تنموية تسعى لتكريسها وبنائها.

التخلف السياسي:
ويعد هذا النوع من التخلف سببًا رئيسيًا في التواطؤ على بقاء واستمرار أشكال التخلف المختلفة، وهذا النوع من المظاهر الخطيرة والآثار الوخيمة على حاضر الأمة وواقعها، ومن ذلك:
- الحكم الفردي المستبد.. فمعظم أنظمة الحكم في عالمنا العربي والإسلامي تعتمد بصورة واضحة على نموذج الحكم الفردي المستبد؛ فالقوانين والدساتير والنظام السياسي ومجالات العمل الأهلي والأحزاب السياسية.. كل ذلك وغيره مآله إلى فرد واحد ربما تحيطه مجموعة من المستشارين في بعض الأحيان، وربما تتبعه بعض البرلمانات أو مجالس الشورى الشكلية، إلا أن مردها في النهاية إلى الفرد. وربما يكون من مهمة هذه المجموعات الاستشارية أو تلك البرلمانات والمجالس الشورية أن تستشرف رغائب الحاكم وتتوقع رؤيته حول قضية بعينها فتسابق في طرحها وعرضها، ولا شك أنه يدخل في بنية عملها متابعة كل شاردة أو واردة في خطاب مهم أو كلمات رائعة -وإن كانت عابرة- لتتحول هذه الكلمات إلى قوانين وتشريعات، ربما يعجب الحاكم نفسه من وجودها!!
- الاستبداد الجماهيري.. ولا نستطيع أن نتصور أن مكمن الخطورة في هذا النموذج تتجلى في الحاكم المستبد فقط، ولكن أيضًا في المحيط الجماهيري الذي يقبل هذا النموذج وينميه، وفي الطفيليات المستفيدة من هذا النموذج التي تقتات عليه وتبني آمالها في رحابه.
وخطورة نموذج الحكم الفردي المستبد لا تقتصر على الآثار المترتبة على استبداده في محيط القرارات والقوانين، ولكن على المدى الجماهيري الواسع الذي يتأثر بدوره بالنموذج، ثم ما يلبث أن يتقمصه ويتبناه لتجده بعد ذلك نموذجًا متكررًا بكل موضع في طول العالم العربي وعرضه وعلى كافة المستويات إلا من رحم الله وقليل ما هم؛ فالنموذج يتكرر في المؤسسات والشركات والوزارات والإدارات التابعة لها. فالنموذج المستبد يرشح بشروره على شعبه ليتحول الكبار والصغار والمتوسطون إلى مشاريع حاكم مستبد.
- الركود وعدم التجديد؛ وذلك نتيجة انعدام الحراك والتغير الناتج عن ثبات الحاكم المستبد وعدم قدرته على التطوير والتجديد ربما بسبب طول المكث والبقاء، وربما لعدم وجود مبرر للتطوير والتجديد لتراجع أو انعدام أي قدرة جماهيرية على تغيير الحاكم أو زحزحته من عرشه. - اليأس والإحباط.. وبطبيعة الحال فإن اليأس والإحباط لا يتسربان منذ البداية، ولكن مع عمليات القمع والسحل التي يتعرض لها كل من تسول له نفسه أن يعبر عن رأيه أو يقدم رأيًا مختلفًا عن رأي الحاكم الذي يعتمد النموذج الفرعوني: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}. انسداد قنوات التعبير وأدوات التغيير حتى تلك البعيدة عن صولجان العرش، ليتم تأميم هذه القنوات وتلك الأدوات وإن كانت لا تؤثر بصورة مباشرة وفاعلة، إلا أن سدها ومصادرتها أمر يكون على سبيل الاحتياط.
افتقاد الانتماء.. خاصة أن تنمية روح الانتماء لا تتم إلا من خلال المشاركة الفاعلة في المجتمع، التي تدفع أصحابها إلى الإحساس بأنهم جزء من ذلك الوطن الذي ينتمون إليه، بينما يذوب هذا الإحساس وسط الشعور بالاغتراب وعدم القدرة على الإسهام في بناء الوطن.

التفرق والأنامالية:
قد يكون التفرق والأنامالية أحد إفرازات الديكتاتورية والتسلط نتيجة افتقاد المشاركة أو الإحساس بالقدرة على التأثير أو التغيير، ولكن قد تكون الأنامالية أيضًا أحد إفرازات الثغرات الشعوبية والقومية، خاصة إذا نقلنا الحديث إلى الكيان الكبير للأمة، وربما بسبب تسيد قيم الاستهلاك والمادية.
وباستعراض سريع لواقع العالم العربي والإسلامي خلال العقود المتأخرة نكتشف أن هناك عددًا كبيرًا من النزاعات والصراعات التي شغلت الأمة عن التحديات الحقيقية التي تواجهها، ووفقًا لدراسة نشرها موقع "الجزيرة" على الإنترنت وبمتابعة العقود المتتالية نلاحظ عددا من النزاعات البينية:
- من 1950 وحتى 1959 م تنازعت 9 دول إسلامية فيما بينها.
- ومن 1960 حتى 1969 م ارتفع عدد الدول المتنازعة إلى 21 دولة.
- ومن 1970 حتى 1979 م وصل العدد إلى 22 دولة.
- ومن 1980 حتى 1989 م نقص العدد دولة واحدة ليعود إلى 21 دولة.
- ومن 1990 حتى 2000 م بقي العدد كما هو 21 دولة.
بالنظر إلى عدد مرات وقوع النزاعات في العالم الإسلامي نجد أن 127 نزاعاً وقع في فترة زمنية تزيد عن 6 عقود (1940 - 2000 م) شاركت فيها 37 دولة إسلامية.
بالنظر إلى ما تقدمه الأرقام التقريبية لخسائر النزاعات بين دول العالم الإسلامي (الأرقام المتوفرة تخص فقط الخسائر البشرية) نلاحظ التالي:
- بلغ عدد خسائر النزاعات في الأرواح ما يقرب من 600 ألف قتيل.
- عقد الثمانينيات وعقد التسعينيات هما أكثر الفترات الزمنية خسائر؛ إذ يصل عدد من سقطوا فيهما إلى حوالي 550 ألف قتيل.
- منطقة الخليج العربي (حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق) وشبه الجزيرة العربية (حرب الخليج الثانية ) هما أكثر المناطق خسائر.
- الدول الإسلامية في آسيا تحملت العبء الأكبر من الخسائر؛ إذ سقط فيها أكثر من 95% من ضحايا النزاعات.
- الدول الإسلامية الغنية (خاصة بالنفط) مثل العراق وإيران والكويت وليبيا تتحمل العبء الأكبر من الخسائر.التخلف الأخلاقي والقيمي:
ويبرز هذا الجانب في تدني القيم الحاكمة في المجتمع، وشيوع عمليات السرقة والنصب والتزوير والاختلاس والرشوة والانحلال الأخلاقي والقيمي والتفسخ الاجتماعي والعنف داخل كيانات المجتمع المختلفة، سواء داخل الأسرة أو المدرسة، بالإضافة إلى انعدام الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع واستيعاب بعضها للبعض الآخر.
وقد صنفت مؤسسة "الشفافية الدولية" -وهي مؤسسة غير ربحية يشرف عليها البنك الدولي- 85 دولة حسب مدى انتشار الفساد في سلم تنازلي من 10 (الأكثر نزاهة) إلى صفر (الأقل نزاهةً). ووفق هذا السلم فإن أكثر الدول الإسلامية نزاهة جاءت في موقع متوسط من هذا السلم، واعتبرت ماليزيا من بينها الأكثر نزاهة وحصلت على 5.3 نقاط، تلتها تونس (5 نقاط)، ثم الأردن (4.7 نقاط)، أما أقل الدول الإسلامية نزاهة فهي نيجيريا وحصلت على 1.9 نقطة، ثم إندونيسيا (نقطتان)، ثم باكستان (2.7 نقطة).
[4] محلية أم شاملة؟
ونعود لنسأل عن طبيعة المعركة: هل هي محلية تقتصر على قُطر من الأقطار أم أنها تتسع لتشمل كافة البلدان العربية والإسلامية؟
وتحتاج الإجابة على هذا السؤال عددًا من المحاور والنقاط التي تحتاج إلى تأكيد:
- إن رغبة الولايات المتحدة في الهيمنة والسيطرة لا تقتصر فقط على الدول والبلدان العربية والإسلامية، وإنما تتسع لتشمل الهيمنة وبسط النفوذ على العالم كله، وهو ما عبر عنه أكثر من مسئول أمريكي بأن القرن الواحد والعشرين ينبغي أن يكون أمريكيًا خالصًا.
- إن البلدان العربية والإسلامية هي الحلقة الأكثر خطورة في طريق الولايات المتحدة لقيادة العالم؛ فرغم إمكانية احتواء هذه المنطقة من خلال أنظمة ديكتاتورية يمكنها أن تقمع شعوبها لتذليل العقبات وتحقيق المصالح الأمريكية.. فإن الواقع يؤكد أن هناك صعوبات بالغة تكتنف إقناع الشعوب بهذه الهيمنة الاستعمارية واستمرارها.
- إن أوروبا تشعر أنها والولايات المتحدة جزء من حضارة واحدة، وإن تباينت المصالح أحيانًا، إلا أنهما في نهاية المطاف يتفقان بصورة كبيرة.
- تحرص الولايات المتحدة ومعها الأنظمة الحاكمة في المنطقة على إقناع الشعوب بأن الهيمنة الاستعمارية بمفهومها الشامل لا تستهدف الجميع، ولكنها فقط تستهدف من يخرج عن المألوف أو يتخطى الحدود، وأن هناك نموذجًا يمكن أن يكون مثاليًا في التعامل مع الولايات المتحدة، ويحتفظ في الوقت نفسه بنوع من الاستقلال النسبي.
- معطيات الواقع تؤكد أن الهيمنة الأمريكية بصورتها الشاملة لا تستثني قُطرًا أو دولة من الدول في المنطقة، وأنها ترشح عددًا من الدول العربية والإسلامية للغزو المباشر، بينما ترشح دولا أخرى للغزو بالوكالة من خلال دول أخرى، وتفرض وجودها من خلال القواعد العسكرية على بعض البلدان دون معارضة من أولي الأمر في تلك البلدان ودون حاجة إلى غزو عسكري. أما ما تبقى فربما تتراجع أهميته الإستراتيجية أو تقل المخاوف منه، إلا أن الجميع مشمول بالهيمنة الثقافية والفكرية والأخلاقية كإجراء وقائي يضمن عدم الخروج من بيت الطاعة الأمريكي.
اليأس لا يصنع النصر
من خلال الاستعراض السابق للتصورات الأمريكية لمستقبل المنطقة ورؤيتها لما تؤول إليه أمتنا ومن خلال تواصل المحن والهزائم على الأمة يصاب أفراد الأمة بالإحباط واليأس، وربما يتسرب هذا الإحباط وذلك اليأس إلى القوى الفاعلة في الأمة والمؤهلة لأن تقودها إلى مفاتيح النصر الحقيقية.. ولا شك أننا كبشر نصاب بالوهن والحزن على واقع متراجع ومستقبل لا يبشر بخير، وهو أمر لا يرفضه الإسلام إذا كان عند منسوبه الطبيعي والآمن.
أما المحظور إسلاميًّا والمرفوض شرعًا وعقلا هو أن نصل إلى تخوم الإحباط وحدود اليأس؛ فالله تعالى يقول: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139)، ويقول سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110)، والاستيئاس لا يصل بالمؤمن إلى دائرة الإحباط والتوقف عن العمل، وإنما هو تعبير طبيعي عن شعور فطري يتفجر في النفس البشرية سرعان ما يلتقي بينابيع الإيمان الصادق وملامح الفهم الدقيق؛ فتلجم هذه الأحزان المتفجرة، وتمنعها من إطفاء جذوة العمل والبناء في الطريق الصحيح.
وإذا أردنا أن نضع أيدينا على العلاج المناسب للأمراض التي تعانيها الأمة؛ فمن المناسب أن نستعرض الأسباب التي تدفع باليأس أن يتسرب إليها لتصل بها مشاعرها إلى تخوم الإحباط وعدم الرغبة في استئناف العمل والنشاط.. ومن ذلك:
- عدم فهم الأزمة بصورة حقيقية وفي سياقها العام، وعدم وضعها في إطار منظومة متكاملة تبدأ من ملامح التخلف التي تحياها الأمة في مختلف المجالات، وعدم أخذها خطوات جادة في طريق البناء الصحيح، إضافة إلى تفوق أعدائها وامتلاكهم لأسباب القوة، وأخذهم بأسباب التفوق.
- غياب القراءة الواعية للتاريخ، واستلهام الدروس منه، والتعرف من خلاله على أسباب النصر وأسباب الهزيمة، والوقوف من خلاله على السنن الإلهية في الكون، وتعميق القدرة على التمييز بين العدو والصديق.
- التفاؤل غير الرشيد.. فرغم أن المطلوب من المسلم أن يكون متفائلا أملا في نصر الله؛ فإن ما نرفضه هو عدم الرشد في هذا التفاؤل الذي قد يصل أحيانًا إلى حد السذاجة؛ فهو تفاؤل بعيد عن الواقع منبتّ الصلة عن معطياته، وهو أشبه بتفاؤل التلميذ الذي أعطى ظهره لكتابه طيلة العام، ويتفاءل بالنجاح رغم ذلك!!
- الوقوع في براثن الحرب النفسية التي يقودها المستعمر لإضعاف الروح المعنوية.
اليأس غير مشروع
وعندما نطرح أسباب اليأس والإحباط لا يعني أننا نبرره أو نقبله، ولكن نبحث الأسباب، ونتعرف عليها لتجنبها؛ إذ لا مجال أمام المسلم سوى رفض اليأس والقنوط، وإلا وجد نفسه في مواجهة مع مقتضيات الشرع والعقل في آن واحد.. فاليأس بمعيار الشرع مرفوض، وبمعيار العقل لا يقود إلى النصر، ويحرم الأمة من الاستفادة القصوى من إمكاناتها وتسخيرها في الاتجاه الصحيح لقطع خطوات جادة نحو النصر، وهاهو القرآن الكريم يضع لنا معالم الطريق، ويحدد لنا غاياتنا وأهدافنا، ويصف لنا العلاج الناجح مما نعاني.. يقول تعالى:
{وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف: 78)، قال تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56)، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110). {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214).
ويقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53).
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باعثًا الأمل في نفوسنا مهما ادلهمت الخطوب، وضاق الأفق، واستبد العجز واليأس بالإنسان: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل".
إن منطق الإيمان بقدرة الله على تذليل الأسباب وتيسيرها لأهل الإيمان لينفضوا غبار التخلف الشامل الذي حاق بهم هو منطق جدير بالمسلم، وجدير بإيمانه وأمله في تأييد الله وعونه.
أحاديث نهاية الزمان
يعجب المرء أشد العجب -خاصة إذا كان متابعًا للأحداث بصورة دقيقة- من التواكب العجيب والتلاقي المذهل بين صدور بعض الكتب وشيوع عدد من الشائعات حول نهاية الزمان وبين الأزمات الكبرى والأحداث الجسام التي تمر بها الأمة..
وما إن يخفت الحدث الجلل حتى تخفت معه تلك الأصوات لتعود من جديد وتبني على ما سبق أن ذكرته عندما تظهر حادثة أخرى عظيمة يتعرض فيها المسلمون للابتلاء بالهزيمة.
ورغم أن العجب من هذا التلازم والتواكب يدفع المرء أحيانًا إلى سوء المظنة فيمن يردد هذا الكلام.. فإن الإنسان سرعان ما يعود إلى رشده، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، دافعًا عنه سوء المظنة؛ ليضع هذه الشائعات وتلك الأصوات في مجمل التخلف والجهل الذي حاق بالأمة.
فما إن تقع حادثة عظيمة من غزو أو استعمار أو هجوم على قُطر من أقطار الأمة، وما إن يتفاعل المسلمون مع الأزمة ويبدءوا في إمعان التفكير في تلك الحادثة والبحث عن أسبابها، وما إن يشرعوا في التعرف على عدوهم ويبدءوا في إدراك قضيتهم واستيعاب مجريات الحدث.. حتى تظهر تلك الأصوات التي تتكلم تارة عن ظهور المسيخ الدجال أو قرب ظهوره، أو عن حتمية ظهور المهدي خلال أيام أو أسابيع، أو عن الوصول سريعًا إلى معركة فاصلة ليس للمسلمين دور في التمهيد أو الإعداد لها، وإنما تحدث دون ترتيب من أحد.
يشيع هذا كله وغيره ليصل بالمسلمين إلى قمة الإحباط الذي تطلعوا إلى سفحه مع بداية الأحداث، وليصل بهم إلى قناعة بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن ما حدث وما هو مرشح للحدوث إنما هي وقائع لا ريب حادثة ولا مبرر لتحاشيها، ولا فائدة من تلافيها، ولا ضرورة لاحتوائها؛ فقد انفض سرادق الحياة، وأوشك الزمان على الرحيل، وباتت ملامح النهاية المحتومة.. فلماذا إذن العمل؟ ولماذا نشغل أنفسنا بخطط ودراسات واستطلاعات وأبحاث ورؤى وتصورات، وقد سبق السيف العزل؟
هذا هو الواقع المرير الذي مر ويمر بالمسلمين كلما ارتفعت تلك الأصوات، وما إن تردد الحديث عن الأزمات، وهو ما يحتاج إلى توضيح وتفهيم:
- إن أحاديث المهدي المنتظر -كما ذكر فضيلة الشيخ سلمان فهد العودة في دراسة نشرت له بموقع " الإسلام اليوم " على شبكة الإنترنت- ورد منها الموضوع والضعيف والحسن وأقلها الصحيح، ومن هذه الأحاديث استخلص الفقهاء ما يجب اعتقاده تجاه هذه القضية، وهو أن المهدي حقيقة لا تنكر؛ حيث يخرج آخر الزمان خروجًا عاديًا يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا من قبل، وخروج المهدي بهذه الصورة لا يوجب على المسلمين أن ينتظروه أو يتربصوا به السنين؛ فظهوره لا يلغي الشرائع ولا ينسخ الأحكام، ومن تباطأ فيما وجب عليه متذرعًا بانتظار المهدي؛ فقد خالف نهج المسلمين.
- ويقول الشيخ سلمان: إن أهل السنة يؤمنون برجل من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج في آخر الزمان خروجًا طبيعيًا، يولد كما يولد غيره، ويعيش كما يعيش غيره، وربما يقع منه الخطأ، ويحتاج إلى إصلاح مثل غيره من الناس، ثم يكتب الله على يديه خيرًا كثيرًا، وبرًا وصلاحًا للأمة وعدلا، ويجمع الله به شمل المسلمين ليس هناك أكثر من هذا. كما هو وارد في الأحاديث، ولم يرد في أي نص من النصوص أننا متعبدون بانتظاره، أو ترقبه، بل ينبغي ألا يقبل أي مسلم مثل هذا الادعاء بمجرد الاشتباه، حتى تقوم الأدلة الكافية؛ فإن المدعين كثير منذ فجر التاريخ.
والمسلم مطالب بالتثبت والتحري والأناة، وألا يستعجل الأمور بمجرد الرغبة أو الهوى النفسي. ويقول الشيخ سلمان: "إن خروج المهدي لا يتوقف عليه أي شعيرة شرعية، نقول: إنها غائبة حتى يأتي الإمام المهدي، فلا صلاة الجمعة، ولا الجماعة، ولا الجهاد ، ولا تطبيق الحدود، ولا الأحكام، ولا شيء من ذلك مرهون بوجوده؛ بل المسلمون يعيشون حياتهم، ويمارسون عباداتهم، وأعمالهم، ويجاهدون ويصلحون ويتعلمون ويعلّمون، فإذا وجد هذا الإنسان الصالح، وظهرت أدلته القطعية التي لا لبس فيها اتبعوه.
وعلى هذا درج الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وتتابع على هذا أئمة العلم على تعاقب العصور؛ ففكرة سيطرة الترقب، والانتظار، والمبالغة بهذا أمر حادث".*
ومن خلاصة ذلك ندرك عددًا من النقاط التي يجدر الإشارة إليها:
- هناك وقائع تاريخية كثيرة حدثت في الماضي وتكررت وتشابهت مع ما نعيشه اليوم من أحداث، وكان بإمكان البعض حينها أن ينحرف بفكره ويسقط عليها أحاديث الفتن، ولو أخذ المسلمون إبان الحروب الصليبية أو حروب التتار هذا المنحى في التفكير لتقاعسوا عن الجهاد وإعداد الأمة للعودة من جديد إلى الصدارة.. فقد كان من الممكن أن يبرر البعض خيانة الأمراء الذين سهلوا وتواطئوا مع الحملات الصليبية باعتبار أن هناك أحاديث نبوية تتكلم عن تحالف المسلمين والنصارى في وجه قوى أخرى ربما كان من السهل حينها أن يفسرها البعض بالتتار.
- إن إسقاط الأحاديث على واقع بعينه بطريقة لم تجمع عليها الأمة يُعد من أخطر ما قد تتعرض له الأمة من الفتنة على يد ثلة من أبنائها يحولون بينها وبين الجهاد الشامل لإعادة البناء وتحقيق السبق الحضاري لتكون كلمة الله هي العليا.
- هناك خلل واضح في منهج التعامل مع النبوءات والمبشرات؛ فالمنهج الذي يرشحه لنا هؤلاء هو منهج الانتظار والصمت حتى تقع الأحداث دون جهد أو جهاد، بينما تعامل الصحابة -رضوان الله عليهم- مع نبوءات فتح فارس والقسطنطينية وغيرها من بشارات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالعمل الجاد والجهاد الدائب والتخطيط المستمر، وبعد ذلك كله ترقبوا النصر الذي كان قاب قوسين أو أدنى منهم. - إننا ندرك تمامًا أننا في آخر الزمان؛ فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو نبي آخر الزمان؛ حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بإصبعيه، ولكن لم يمنع كل ذلك من جهاده -صلى الله عليه وسلم- وحثه أمته على العمل والجهاد والبناء والتصويب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا فعل صحابته، رضوان الله عليهم.
- إن معايير الزمن عند الله غيرها عند الإنسان {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47)، {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (المعارج: 6-7).
- إن الله تعالى استعبدنا باتباع منهجه الذي أنزله في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعلى المرء أن يشغل نفسه باتباعه للمنهج وسيره على الهدي النبوي بغض النظر عن مآلات العمل ونتائجه أو حتى مآلات الدنيا.. وهاهو -صلى الله عليه وسلم- يجيب من يسأل عن توقيت الساعة فيصرفه عن ذلك إلى التفكير في العمل لها؛ فيقول -صلى الله عليه وسلم- عندما يسأله سائل متى الساعة؟ فيقول: "وماذا أعددت لها؟".
- إن قيامة الإنسان بموته قد تكون أقرب من الساعة العامة التي ينتظرها البشر جميعا، وهو ما يجدر بالمرء أن يشغل نفسه به عملا وسعيًا واتباعًا للمنهج.
- منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهديه في آخر الزمان وأيضًا في آخر الحياة أن يعمل المرء حتى يلقى ربه "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل".

أمم لا تيأس
لعل من أشد ما يثير العجب أن يتفشى اليأس والإحباط ثم الانبطاح والاستسلام لمطالب وأطماع المستعمر في أمة يحرم دينها اليأس، ويرفض الإحباط بل يعده من الأمور التي يخشى على إيمان المرء إن تسربت إليه أو تملكت عليه نفسه.. بينما تصمد أمم لا تملك هذا اليقين، ولكنها رغم ذلك تملك إرادة صلبة في مواجهة محاولات الهيمنة والسيطرة، ونقف هنا عند نموذجين من نماذج الصمود والتحدي ضد الهيمنة: الأول في كوريا الشمالية والثاني في كوبا.
ففي المثال الأول نلاحظ المعاناة الاقتصادية الكورية إزاء عمليات الحصار المستمرة من قبل الولايات المتحدة منذ نصف قرن، بل إن كوريا الشمالية تعد أول بلد استخدمت فيه واشنطن الأسلحة البيولوجية والكيماوية ضد البشر والحيوانات والنباتات عام 1952 ؛ الأمر الذي ترك آثاره المدمرة على الاقتصاد والحياة في كوريا، ولم تتوقف واشنطن عند ذلك بل قادت حربًا شرسة لحرمان الكوريين الشماليين من حقهم الطبيعي والقانوني في الحصول على تعويضات عن العبودية الجنسية التي تعرض لها عشرات الآلاف من نسائهم في قضية نساء التسلية، وهي القضية التي اختطف فيها الجنود اليابانيون نساء كوريا، وقادوهن قسرًا ليعشن معهم كسبايا في المعسكرات؛ ليعاشروهن جنسيًا تحت سطوة السلاح، ثم يرمونهن بعد انتهاء الحرب بأطفالهن غير الشرعيين في الشوارع، إلا أن الولايات المتحدة اعتبرت حرمان كوريا الشمالية من التعويضات عن الرق البالغة 18 مليار دولار جزءًا من الحصار.
ورغم عمليات الحصار التي تزداد يومًا بعد يوم؛ فقد نجحت كوريا في إيجاد أجواء لصناعة عسكرية ناجحة، تصدر منتجاتها إلى الدول الصغيرة التي تسعى للتسليح التقليدي وغير التقليدي، ويشير معهد الدراسات الاقتصادية الدولية في واشنطن إلى أن الصادرات العسكرية الكورية بدأت تنزل الملعب بشكل مكثف في أوائل الثمانينيات، ووصلت عام 1985 إلى مليار ونصف مليار دولار، ويتوقع المعهد أن تكون الصادرات العسكرية قد وصلت الآن إلى أرقام متقدمة تعد بالمليارات لتمثل الركيزة الأولى للاقتصاد الكوري الشمالي، في الوقت نفسه أبرمت كوريا الشمالية اتفاقات مع الصين بملايين الدولارات كاستثمارات أجنبية تتمتع بضمانات وإعفاءات وحقوق تحويل مباشر.
المثال الثاني من كوبا حيث تفرض الولايات المتحدة العقوبات عليها منذ عام 1959 ، إلا أن الحصار زادت وطأته منذ عام 1990 عندما سقط الاتحاد السوفيتي، وأصبح حصار اليوم مطلقًا؛ حيث تملك الولايات المتحدة مجمل الأوراق التي تشكل متنفسًا للاقتصاد الكوبي، متمثلة في الاستثمار والتكنولوجيا وإعلان الأسواق، والضغط على عائدات الخارج، وبتخفيف صناعة السياحة وتبخير صناعة السكر. ورغم هذه المصاعب فإن كوبا استطاعت تطوير أدائها خاصة في مجال الزراعة العضوية التي ركزت على ثلاثة محاور:
أولها: تطوير نظام أيكولوجي (بيئي حيوي) بديل يقوم على السيطرة البيولوجية على الآفات الزراعية بدلا من المبيدات والكيماويات (مثل استخدام جذع الموز وتطعيمه بالعسل لجذب حشرات معينة للأرض).
ثانيها: زراعة المدن أو بالأدق حدائق المدن بمحاصيل مثمرة.
فهناك حوالي 8 آلاف مزرعة رسمية فقط في هافانا يزرعها 30 ألف فلاح كوبي مقسمة إلى مؤسسات وأفراد، وحدائق الاستهلاك الذاتي، ويزرعها ويستهلك إنتاجها العمال، ويرسل إنتاجها لمطاعم المصانع والجامعات، وحدائق خاصة (أفراد).
والمحور الثالث هو تطوير الآلات الزراعية القديمة (المحراث القديم مثلا) لوقف الاحتياج إلى التكنولوجيا.
ويضحك الكوبيون عادة عندما يقول زوارهم: إنهم أبدعوا تجربة جديدة، ولا يملون -كما يروى صحفي أمريكي- من القول بأنهم لم يفعلوا أكثر من استلهام تراث إنسان بالعودة إلى فترة قريبة ترجع إلى أوائل القرن الثامن عشر، حين كانت زراعات المدن تكفل أكثر من 70% من غذاء أهل المدن. وترصد الأمريكية باتريشيا جروب في كتابها "الزراعة في كوبا.. من الحديقة إلى المائدة" أن الزراعة المثمرة يمكن أن تقابلك في كل مكان: في الزهريات.. في البراميل.. وفي التراس. وإنه في عام 1999 كان هناك 33 مشروعًا كبيرًا لإنتاج الفواكه والأرز وغير ذلك بها 250 ألف فلاح يزرعون ما مساحته 3.7 ملايين فدان.
يبقى أن التجربة الكوبية في الزراعة العضوية انتقلت من الطور الميداني إلى الطور الأكاديمي؛ حيث أصبح لها أكثر من 200 مركز، إضافة إلى 173 مركزًا تنتج مواد سيطرة بيولوجية (زراعية) بكميات تصل إلى 93 ألف طن في العام، كما توجتها بإنشاء معهد حماية المحاصيل (أنساسيف) يتدرب عليه زراعيون من المكسيك وكولومبيا وأسبانيا والبرازيل وكوستاريكا وجاميكا وإكوادور وغيرها.
كما أن كوبا استطاعت -وفقًا لتقرير لـ"إنتربرس وورلد ينوساجنس"- أن تنتزع إشادة من البنك الدولي بمستوى التعليم والصحة؛ حيث انخفضت وفيات الأطفال عام 2001 إلى 2 في الألف، وأصبحت على قدم المساواة مع الدول الغربية في مجال رعاية الأطفال، ووصلت بمعدلات التعليم إلى مدرس لكل 12 تلميذا ابتدائيا، وهو معدل مماثل لما وصلت إليه السويد، وبالخدمة الطبية إلى 5.3 أطباء لكل ألف مواطن، وهي من أعلى النسب في العالم.
انتهى كلام الشيخ سلمان العودة


الطريق إلى فوهة النفق
الجهاد بين الموت والحياة
ما إن تبدُ في الأفق مواجهة عسكرية في قُطر إسلامي يشهد اعتداء أو غزوًا واحتلالا.. حتى تبادر الشعوب الإسلامية بالحديث عن "الجهاد "، ويتحمس كثير من الشباب للحصول على أكبر جائزة وأكرم نهاية في أشرف ساحة، وهي بوادر لا شك إيجابية، وتدل دلالة واضحة على أن الحياة بدأت تدب في الأمة، وبدأت تستشعر الخطر القادم الذي لا يبقي ولا يذر، وبدأت تدرك في الوقت نفسه أنها أمة واحدة، إلا أن الأمر يحتاج رغم ذلك إلى وقفات لا بد منها:
إن الجهاد بالنفس هو الرد الطبيعي والموقف الذي لا بديل عنه في حالات الغزو والاحتلال، تلك الحالات التي تستوجب النفرة العامة في القطر المحتل، بل ومن الواجب الذي لا يسقط الإثم إلا به نفرة الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها دعمًا وعونًا ومساعدة بالخبرات العسكرية المدربة عند الحاجة إلى ذلك وبالمال والفكر والكلمة والدعاء في كل الأحوال.
إن للجهاد في الإسلام مفهومًا واسعًا، وهو -كما يفسره العلماء بأنه "بذل الجهد أو تحمل الجهد البدني والنفسي والعملي من أجل الدفاع عن الدين حتى تكون كلمة الله هي العليا". وهو يبدأ بجهاد النفس، ثم جهاد الشيطان، ثم جهاد الظلم والفساد في المجتمع، ثم جهاد الكفار والمنافقين.
وقد قسم الإمام ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" الجهاد إلى ثلاث عشرة مرتبة: أربع منها لجهاد النفس، واثنتان لجهاد الشيطان، وثلاث لجهاد الظلم والفساد والمنكر في المجتمع، وأربع لجهاد الكفار والمنافقين بالأيدي والألسنة والأموال.
ويسوق الدكتور عبد العزيز بن ناصر الجليل في كتابه "التربية الجهادية في ضوء الكتاب والسنة " توضيحا للمعنى الشامل للجهاد فيقول: "عرف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الجهاد تعريفًا عامًا، قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع -وهو القدرة- في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق". وقال أيضا: "... وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان".
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان ما هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر -وهو نشر التوحيد- والنهي عن المنكر الأكبر -وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به-، وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية.
ويبين الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه؛ فيقول: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا؛ فهم الأعلون في الدنيا والآخرة.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها؛ فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدعوة والبيان، والسيف، والسنَانِ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده. ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا.
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان: 51-52). فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغ القرآن. وكذلك جهادُ المنافقين إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة: 73).
فجهادُ المنافقين أصعبُ من جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثة الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا. ولما كان من أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند من تُخاف سَطوته وأذاه، كان للرسلِ -صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ- مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه.
ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : "المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه" كان جهادُ النفس مُقدَّما على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلا له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولا لتفعل ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويُحارِبها في الله.. لم يمكنه جهادُ عدوه في الخارج؛ فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله؟ بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوه حتى يُجاهد نفسه على الخروج "
جهاد شامل
وإذا أدركنا أن القتال أحد أبرز معاني الجهاد ، وأن عدم قدرة الأمة في وقت من الأوقات أو عدم قدرة طائفة منها على القتال المباشر مع الأعداء لا تسقط عنها فرضية الجهاد بمفهومه الشامل والواسع.. ذلك المفهوم الذي يتسع لكل جهد بالغ يستهدف الدفاع عن أمته أو إعادة بنائها وتشكيلها، في أي مجال سواء كان اقتصاديًا أو تربويًا أو إعلاميًا، أو تعليميًا أو علميًا وتقنيًا، خاصة إذا أدركنا أن البناء الصحيح في المجالات المذكورة وغيرها مستهدف من قوى الاستعمار التي تحرص كل الحرص على أن تظل هذه المجالات والأطر في مساحات التخلف والتراجع، ولا شك أن السباحة عكس التيار وبذل المحاولات لإعادة البناء في ظل الأزمات والضغوط هي من أبواب الجهاد الواسعة التي يأثم من تأخر عن تلبية متطلباتها.
ولعل من أخطر ما يصيب الأمة -وخاصة الشباب- بالإحباط هو ذلك الفهم الذي يقصر الجهاد على القتال؛ فما إن انهزمت الأمة في جولة من جولات القتال المباشر أو عجزت عن المقاومة العسكرية في وقت من الأوقات حتى يشعر الجميع بالإحباط وعدم القدرة على العمل؛ ظنًا منهم أن الهزيمة العسكرية هي نهاية المطاف..
إلا أننا إذا أنصفنا بمراجعة أنفسنا، وتعرفنا على أسباب الهزيمة وجدناها نتيجة طبيعية لترك الجهاد الشامل بمفهومه الواسع في كافة مجالات الحياة إعلاء لدين الله ورغبة في إعادة بناء الأمة على تقوى من الله ورضوان؛ مما أفضى إلى واقع متخلف على كافة المستويات، بل إن توقف الهزيمة على ما هو قائم لطف من الله فيما جرت به المقادير وما استوجبته سنن الله الغلابة التي لا تجامل أحدًا ولا تحابي أمة. حتى إنه جال بخاطري ونحن نتجرع عددًا من الهزائم في ميدان النزال والقتال أنه لو قدر وانتصرنا رغم تخلفنا الإيماني والحضاري والاقتصادي والعلمي والسياسي ربما كان ذلك فتنة للذين آمنوا، وفتنة للبشرية كلها عندما ترى سنن الله وقد تخلفت عن مسارها.
وربما يتعجب البعض عندما نقول: إن هذه الهزائم تدعم الإيمان بالله؛ لأنها تنسجم مع منهجه سبحانه وتنسجم مع سننه في الكون، وإن القلب المؤمن الذي يدرك هذه الحقيقية عليه أن يعود إلى سنن الله يدرسها، ويتعرف عليها، ويجهد نفسه في العمل لها، ويستنفر أمته لتستأنف الجهاد الشامل بمفهومه الواسع في كافة المجالات.. خاصة أنه ليس هناك سبيل آخر غير هذا السبيل، وليس هناك طريق يوصل إلى النتائج المرجوة غير ذلك الطريق.
إن هذا الجهاد الشامل الذي ينتظم الحياة كلها في كافة مناحيها ومجالاتها وأشكالها هو عينه الجهاد الذي عناه الإسلام ورغب فيه وأمر به، وهو الذي يجعل حياة المسلم كلها جهادًا في سبيل الله، ويجعل موته أيضًا في سبيل الله، سواء مات في معركة حربية أو على فراشه أو ممسكًا بقلمه أو حاسوبه أو منجله.
البناء تحت القصف
يقسم خبراء الإدارة خريطة العمل الإداري في أي مؤسسة إلى أربعة مربعات:
الأول- مربع الأزمات والضغوط.
الثاني- مربع التخطيط والتفكير والإبداع.
الثالث- مربع الخداع.
الرابع- مربع الإحباط.
ويقصد بمربع الأزمات والضغوط هو تلك المساحة التي يقوم بها المديرون والإداريون في أي مؤسسة في التعامل مع الأزمات العارضة أو الكوارث المفاجئة والضغوط الوقتية.
أما مربع التخطيط والإبداع فهو المساحة الإدارية التي يمكث فيها المديرون والإداريون للتخطيط للمستقبل، وابتكار الأساليب المثلى للتعامل مع الواقع.
والمربع الثالث هو الذي ينشغل فيه المديرون والإداريون بالأمور الفرعية أو غير المهمة على حساب الأهم والأولى.
والمربع الرابع هو الإحباط، ويصل إليه المديرون والإداريون إذا ما ركزوا اهتمامهم وكرسوا جهودهم للبقاء والمكث أكبر وقت ممكن في المربع الأول والثالث، ولا شك أنهم في هذه الحالة يصابون بالإحباط وفتور الهمة عن العمل.
ولكن بأي مناسبة نسوق الحديث عن هذا الأمر الإداري؟ وهل هناك وجه شبه بينه وبين حال الأمة أو الطريقة التي ندير بها أنفسنا؟!
وبشيء من إمعان النظر نجد أنفسنا كأمة أمام واقع مماثل لما يحدث في شركة أو مؤسسة تدار بطريقة فاشلة؛ فما إن برزت في الأفق أزمة حتى تصورنا أن الأمة بكافة هيئاتها ومؤسساتها وجماعاتها ينبغي أن تنصرف إلى ذلك الحدث وتفرغ يدها مما سواه.
والواقع يؤكد أن العدو ينجح في استنفاد قوانا عندما يدرك أن القوى الفاعلة في الأمة لو شغلت نفسها وكرست جهودها في الأزمة فلا شك أنها ستظل عاجزة عن إعادة هيكلة مجتمعاتها أو بناء قدراتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتنموية على نحو صحيح، وهي بذلك ستظل عاجزة عن المواجهة أو تحقيق النصر على المدى القريب. فقوى المجتمع الفاعلة مستنفرة على الدوام في مربع إطفاء الحرائق أو الأزمات والضغوط..
ولا نعني أن الوضع الأمثل يكون في ترك هذا المربع فارغًا، ولكن في توزيع الطاقة بصورة متناسبة بين من يتابع الأزمات ويسدد ويقارب ومن يتحرك لإعادة البناء والتكوين على كافة المستويات الإيمانية والتربوية والعلمية والتقنية والاقتصادية والتنموية ومعه معطيات الواقع وآفاق المستقبل، وإلا كانت النتيجة أن تجتمع قوى الأمة الفاعلة في مربع الضغوط والأزمات، وما إن أسفرت الجولة عن هزيمة للأمة حتى أصيب الجميع بالإحباط، وشعر الكافة بعدم القدرة على استئناف العمل والجهاد في كافة الميادين التي تركتها قوى الأمة الفاعلة، وتفرغت للأزمات التي وإن كانت تمثل خطورة حالة ومباشرة فإن الخطر الأكبر هو إهمال البناء والتكوين الشامل.. إننا بحاجة إلى العمل والبناء الجاد تحت القصف وفي وقت الأزمات، وهذا هو الحل الوحيد.
ماذا نفعل بعد أن أدركنا أبعاد الأزمة التي تمر بها أمتنا، وبعد أن أدركنا أنه لا وقت للقعود أو التكاسل، وبعد أن أدركنا أن اليأس لا يصنع النصر أو يقود إليه، وبعد أن أدركنا أن أممًا غيرنا مرت وتمر بمحن مثلنا ولكنها تقاوم بكل ما أوتيت من قوة؟
ما هي المهام والأدوار التي يتحتم علينا أن نقوم بها ونتسابق في أدائها؟
إذا أردنا أن نبدأ بداية صحيحة، ونتقدم إلى أهدافنا بخُطا حثيثة، فأول ما نسعى إليه ونضعه في سلم أولوياتنا هو القضاء على التخلف بكافة أشكاله وصوره، ولنُحدث تنمية حقيقية وتقدمًا ملموسًا مقابل كل شكل من أشكال التخلف. إننا بحاجة للقضاء على:
- التخلف الإيماني.
- التخلف الإدراكي والمعرفي.
- التخلف العلمي والتقني.
-التخلف الإعلامي.
ولكن كيف يحدث ذلك؟
كل ما ذكرنا من أنواع التخلف يحتاج إلى جهود كبيرة في إحداث تنمية حقيقية في مجاله ، إننا بحاجة إلى :
تنمية إيمانية:
- إننا بحاجة لأن نقضي على أشكال التخلف الإيماني الذي أصاب أمتنا، وشكل ظاهرة تستوجب الدراسة وتحتاج إلى تأمل، وبحاجة إلى أن نُحدث تنمية إيمانية تتمثل في: - عمل حملات مكثفة بين أفراد المجتمع والأجيال الجديدة للعودة الصادقة إلى حقائق الإيمان, وتغذية روافده من الإقبال على الطاعات والتشجيع على ارتياد المساجد وعمل حلقات التلاوة وتعلم القرآن حفظًا ودراسة وترتيلا.
- تربية الحس الإيماني والخشية من الله خاصة لدى الأجيال الجديدة.
- نشر الكتاتيب ومراكز تحفيظ القرآن بجهود شعبية بحتة مهما تراجع الدور الرسمي في هذا الاتجاه.. وابتكار الأساليب الجديدة لتخطي أي قيود على تحفيظ القرآن الكريم, ويكفي أن نتذكر ما حدث في الأقطار الإسلامية تحت الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق، وكيف تمكن نفر غير قليل من حفظ القرآن الكريم في وقت كان فيه المصحف من الممنوعات التي تستوجب الاعتقال لحاملها!
وعندما نستعرض هذا النموذج ندرك أن موروثاتنا الإيمانية في المنطقة العربية منعت تدهور الأمور إلى هذا الحد، وأن أمامنا مجالات واسعة ومساحات شاسعة للعمل من أجل الاعتناء بحفظ القرآن الكريم, سواء من خلال عمل وإنشاء مراكز تحفيظ شعبية أو مطالبة جموع أولياء الأمور لأصحاب المدارس الخاصة بتخصيص أوقات خارج المناهج الدراسية لتحفيظ القرآن الكريم، أو من خلال الدروس الخاصة التي ينبغي أن تسير جنبًا إلى جنب مع ما تتكبده الأسر من إنفاقات باهظة على الدروس الخاصة في المواد الدراسية المقررة.
- تشجيع تحصيل العلم الشرعي من خلال مؤسسات متخصصة أو من خلال دورات تدريبية نوعية تسير جنبًا إلى جنب مع الدورات المتخصصة في الحاسوب واللغات الأجنبية التي زاد الإقبال عليها. والسؤال: لماذا لا نجد دورات تدريبية في تنمية المهارات اللغوية والبلاغية وتكوين أسس الثقافة الإسلامية المتنوعة سواء في التاريخ الإسلامي أو الفقه أو علوم الحديث والتفسير لتسير جنبًا إلى جنب مع دورات الحاسوب واللغات؟
يمكن لما ذكرنا من دورات تدريبية متخصصة أن تؤهل عددًا من الشباب للقيام بدور تربوي متميز في تنشئة وتربية الأجيال الجديدة, وبهذا يمكن أن تنشأ وظائف ومهن جديدة تحتاج إلى تأهيل علمي مقبول من خلال هذه الدورات؛ لتعود وظيفة "المربي" التي عرفها تاريخنا الإسلامي؛ وذلك بأن يعهد الآباء أبناءهم إلى ثلة من الشباب المؤهل علميًا وشرعيًا؛ لتربيتهم وتأديبهم وتعليمهم، وهو ما يمكن أن يعالج الخلل الحادث والمتوقع حدوثه خلال المرحلة القادمة من خلو مناهج التدريس الرسمية من المقررات والمناهج الشرعية والتراجع المذهل في جرعة الثقافة الإسلامية, إضافة إلى الهشاشة واللبس المضمر فيما تبقى من مناهج إسلامية، والذي قد يكون ضرره في بعض الأحيان أكثر من نفعه.
- يمكن أن تنشأ مؤسسات اجتماعية جديدة قادرة على تأهيل البنات لتحمُّل أعباء الحياة الزوجية بصورة متوازنة, تجمع بين الأسس والطرق العلمية المناسبة والقيم والأخلاق في إطار الرؤية الإسلامية الشاملة.
وربما يكون من المفيد في هذه الحالة أن يحصل الشباب من الجنسين على دورات متخصصة تضع أقدامهم على بداية صحيحة للحياة الزوجية تحدد لهم ملامح الطريق ومعالمه، وهو ما يمكن أن يكتسب أهمية نسبية عن بعض ما ينفَق في حفلات الأعراس وكثير من المبالغات في نفقات الزواج.
إن هذه الدورات المتخصصة يمكنها أن تؤهل الشباب، وتضع أقدامهم على الأهداف الحقيقية التي ينبغي أن تكون ماثلة أمامهم وهم مقبلون على هذه المرحلة, وتضع أيديهم على مقاصد الشريعة من الأسرة كأحد مكونات المجتمع التي يمكن أن تساهم بصورة فاعلة وكبيرة في التنمية الإيمانية والقضاء على التخلف عن ركب الإيمان.
تنمية إداركية
المعضلة الكبرى التي تواجه الأمة وتشكل مدخلا واسعًا للتخلف الشامل هو تخلفها الإدراكي والمعرفي؛ فقد نجحت البعثات الثقافية المبكرة التي شهدتها الأمة في الحقبة الاستعمارية الأولى, ومن بعدها وسائل الإعلام بمختلف صورها وأشكالها في إحداث تأثيرات واسعة على مدركات الأمة لواقعها وماضيها ومستقبلها حتى أصبحت غير قادرة في كثير من الأحوال على التوصل إلى مكامن الخلل والتمييز بين العدو والصديق.
وقد صادف هذا الواقع الضاغط تربة محلية خصبة ساعدت على تفشي التخلف المعرفي والإدراكي, حتى إن البعض ظن -إما قناعة أو سذاجة- أننا جزء من حضارة غيرنا, وأن هذا شرف لا يجوز لأمثالنا أن يتردد في قبوله والأخذ به، بل سول للبعض أن تلك فرصة ذهبية ربما تضيع لو لم نحسن استغلالها والاستفادة منها، بل إن أي صوت يخرج من هنا أو هناك ليعيد النظر فيما يقال أو يتردد إنما هو صوت جاهل متخلف يسعى إلى العودة بنا إلى دهاليز التاريخ، وما هو بعائد ، حتى تعارف القوم على أن الخير كل الخير في أخذ حضارة غيرنا جملة وتفصيلا دون أي اعتبار لخصوصية حضارية أو استقلال تنموي يتناسب مع موروثاتنا ومبادئنا.
وفي أحسن الأحوال نجد من لا يشعر بالتناقض بين معطيات الحضارات الأخرى وموروثاته وقيمه، بعد أن اختزلها في بعض من الطقوس والعبادات، بعيدًا عن واقع المجتمع ومجريات الأحداث.
ولأننا ندرك جسامة هذه المعضلة وخطورة تأثيرها؛ فإن الشفاء منها يحتاج إلى جهود واسعة تبدأ بالإيمان الصادق والمعرفة الصحيحة بما نملكه من حضارة متميزة تحمل الأخلاق وتصدر القيم الفاضلة.. حضارة نريد أن تأخذ بيد البشرية لتنتزعها من الواقع المحتقن بالمظالم والمكتظ بالعنصرية والتفرقة في المعاملة على أساس اللون أو الجنس أو الدين، حضارة لا تفرق بين عربي وأعجمي، ولا تفرق بين أبيض وأسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، بل إنها تقول لمخالفيها في العقيدة من غير عدوان: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6).
فالبداية هي المعرفة الصحيحة لمعطيات حضارتنا وإمكاناتها، والإدراك لاحتياج العالم كله من حولنا لقيمنا وحضارتنا، والإيمان الصادق بقدرة ما نملك من حق على إعادة بناء البشرية ومعالجتها من طغيان القيم الباطلة والأخلاق المرذولة {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25).
ولكن كيف نقضي على هذا التخلف الإدراكي والمعرفي؟ وكيف نضع أقدامنا على البدايات الصحيحة في طريق الفهم والتنمية المعرفية؟
- إننا بحاجة لأن نستنفر كل الطاقات الكامنة في هذه الأمة للتنقيب في مكامن ثقافتنا الإسلامية والغوص في أعماقها.
- إعادة الثقة فيما نحمل من حضارة لا تحمل عداء للبشرية بل تملك لها مفاتح الخير والهداية والعدالة، وفي الوقت نفسه تملك من المؤهلات الذاتية ما يجعلها قادرة على انتزاعها من طغيان المادية.
- أن تنبني الثقة في حضارتنا الإسلامية من خلال فهم دقيق وإدراك واعٍ لمفردات هذه الحضارة، من خلال التعرف على جوانب التميز فيها.
- إيجاد أنظمة تعليم موازية لمناهج التعليم التي تروج لحضارة المستعمر وسياسية القبول بالأمر الواقع، وأن يتم الدفاع عن الأنظمة التعليمية البديلة بكل قوة.
- أن تساهم القوى الفاعلة والواعية في الأمة بدور بارز في إعادة هيكلة نظم التعليم الموازية للمناهج الرسمية؛ باعتبار أن هذا النوع من الجهاد لا يقل أهمية عن الجهاد السياسي المباشر.
- التوسع في إدراك مفهوم السياسة والمشاركة السياسية من مجرد الإدلاء بالأصوات أو المشاركة في الانتخابات البرلمانية، إلى أداء دور مؤثر في إعادة هيكلة المجتمع والاقتصاد وأنظمة التعليم في اتجاه ما يدعم هوية الأمة وبعيدًا عن مقاصد المستعمر.. وهو ما يحتاج إلى جهود مكثفة لا تركز فقط على الأداء السياسي المباشر من خلال البرلمان أو غيره, وإنما من خلال المجتمع بكافة مفرداته.
- الاهتمام بالتوعية الفردية من خلال الاتصال المباشرة سواء الموجه إلى فرد أو مجموعات نوعية.
- التركيز في التوعية الفردية على دفاع أفراد المجتمع وحثهم على الإسهام في نهضة الأمة. القضاء على التخلف العلمي والتقني:
وتبدو في هذه المهمة صعوبة كبيرة تنجم عن اعتماد التقنية العلمية قاعدة مؤسسية واسعة، تكاد لا يقوم بها إلا الحكومات، وإذا كنا لا نتوقع أن تتعامل الحكومات الملزمة بأجندة المستعمر بدعم التنمية العلمية والتقنية.. فلا يعني ذلك الاستسلام وعدم الاهتمام بهذه القضية المحورية، ونطرح من ذلك عددًا من المهام التي تحتاج القوى الفاعلة في الأمة أن توليها أهمية بالغة, ومن ذلك:
- نشر الوعي على المستوى الثقافي والتربوي بين أفراد الأمة بأهمية التنمية العلمية والتقنية.
- تعريف الأمة بالأحكام الشرعية المتعلقة بوجوب التنمية العلمية.
- عمل مسابقات تدمج بين الوعي الإيماني والثقافي والعلمي التقني؛ لتدرك الأمة أن التقدم العلمي أحد أهم التحديات التي لا تتقدم أمة بدونها، ويتم من خلالها التعرف على الخبرات العلمية المتميزة لتفريغها للقيام بدورها التخصصي وعدم شغلها بما سواه من أدوار.
- إنشاء مؤسسات شبه رسمية من خلال النقابات المتخصصة ومراكز الأبحاث والجامعات الخاصة وغيرها, تساهم في تنمية الخبرات العلمية للأفراد المتميزين.
- بذل جهود في نشر الوعي المعرفي والثقافي والإيماني بين العلماء والخبراء, خاصة الذين مكثوا خارج أوطانهم, ودفعهم إلى إثراء أمتهم بجهودهم العلمية وخبراتهم الواسعة.

التنمية الإعلامية:
وهو من أكبر المجالات التي منيت أمتنا بالتخلف فيها، خاصة أن المستعمر يتعامل مع الإعلام جنبًا إلى جنب مع القوة العسكرية, وربما يرى أن معارك كثيرة لا يمكن حسمها بعيدًا عن الإعلام، وقد يرى أن القوة العسكرية ربما تفشل أحيانًا فيما ينجح فيه الإعلام. والمتابع يستطيع أن يلاحظ تلازم الكتائب الإعلامية جنبًا إلى جنب مع الوحدات القتالية؛ فهي التي تصيغ الشعور، وتصنع الحروب النفسية، وتساهم بقدر وافر في هزيمة الشعوب أو انتصارها.
وبالرغم من سعة الآفاق الإعلامية المتاحة أمام أمتنا فإن الواقع يؤكد أن هناك مساحات واسعة بيننا وبين الانطلاقة المثمرة في مجال الإعلام، ولعل من أبرز التحديات التي تواجهنا في هذا المجال:
- تأميم ومصادرة الإعلام في أغلب البلدان العربية، وتجييشه للتعبير عن الرؤية الرسمية للحكومات دون إتاحة الفرصة للتنوعات الفكرية.
- عدم إدراك كثير من مراكز التأثير داخل القوى الفاعلة في المجتمع لخطورة وأهمية الإعلام ودوره الحيوي الذي يمكن أن يضطلع به في النهضة والبناء، وبالتالي يظهر الإعلام الوطني بصورة لا تعتمد على الاحتراف من الناحية الفنية بسبب تراجع القناعات بضرورة الإعلام والاهتمام به ورعايته.
- ضعف التمويل وتراجعه بسبب تراجع القناعات لدى الموسرين ورجال الأعمال الوطنيين بأهمية الإعلام .
- عدم قدرة الإعلام الوطني على جذب الإعلانات التي تشكل مصدرًا كبيرًا من مصادر التمويل؛ وهو ما يحتاج إلى البحث عن مصادر بديلة أو مساندة للإعلانات التجارية. ومن أبرز تلك المصادر الوقف أو المشاريع التجارية الموازية التي بإمكانها أن توفر استقرارًا مقبولا للمؤسسات الإعلامية الوطنية، وتسهم في استمراريتها.
وثائق
نص مشروع "الشرق الأوسط الكبير"
نص مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي المقدم إلى قمة الدول الثماني كما نشرته جريدة الحياة اللندنية في 13/ 2/2004
بداية النص:
يمثل "الشرق الأوسط الكبير" (1) تحدياً وفرصة فريدة للمجتمع الدولي. وساهمت "النواقص" الثلاثة التي حددها الكتاب العرب لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003 - الحرية, المعرفة, وتمكين النساء - في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الـ8 . وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة, سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. أن الإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في "الشرق الأوسط الكبير" مروعة:
مجموع إجمالي الدخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ22 هو اقل من نظيره في أسبانيا.
حوالي 40 في المائة من العرب البالغين - 65 مليون شخص - أميون, وتشكل النساء ثلثي هذا العدد.
سيدخل أكثر من 50 مليوناً من الشباب سوق العمل بحلول 2010, وسيدخلها 100 مليون بحلول 2020. وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل.
إذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة, سيبلغ معدل البطالة في المنطقة 25 مليوناً بحلول 2010.
يعيش ثلث المنطقة على اقل من دولارين في اليوم. ولتحسين مستويات المعيشة, يجب أن يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة أكثر من الضعف من مستواه الحالي الذي هو دون 3 في المائة إلى 6 في المائة على الأقل.
في امكان 6,1 في المائة فقط من السكان استخدام الانترنت, وهو رقم اقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى في العالم, بما في ذلك بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
لا تشغل النساء سوى 5,3 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية, بالمقارنة, على سبيل المثال, مع 4,8 في المائة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
عبّر 51 في المائة من الشبان العرب الأكبر سناً عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى, وفقاً لتقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002 , والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوروبية.
وتعكس هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق. ويمكن للشرق الأوسط الكبير أن يستمر على المسار ذاته, ليضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية. وسيمثل ذلك تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة, وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الثماني.
البديل هو الطريق إلى الإصلاح. ويمثل تقريرا التنمية البشرية العربية نداءات مقنعة وملحة للتحرك في الشرق الأوسط الكبير. وهي نداءات يرددها نشطاء وأكاديميون والقطاع الخاص في أرجاء المنطقة. وقد استجاب بعض الزعماء في الشرق الأوسط الكبير بالفعل لهذه النداءات واتخذوا خطوات في اتجاه الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وأيدت بلدان مجموعة الثماني, بدورها, هذه الجهود بمبادراتها الخاصة للإصلاح في منطقة الشرق الأوسط. وتبيّن "الشراكة الأوروبية المتوسطية", و"مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط", وجهود إعادة الإعمار المتعددة الأطراف في أفغانستان والعراق التزام مجموعة الثماني بالإصلاح في المنطقة.
أن التغيرات الديموغرافية المشار إليها أعلاه, وتحرير أفغانستان والعراق من نظامين قمعيين, ونشوء نبضات ديموقراطية في أرجاء المنطقة, بمجموعها, تتيح لمجموعة الثماني فرصة تاريخية. وينبغي للمجموعة, في قمتها في سي آيلاند, أن تصوغ شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير, وتطلق رداً منسّقاً لتشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. ويمكن لمجموعة الثماني أن تتفق على أولويات مشتركة للإصلاح تعالج النواقص التي حددها تقريرا الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر:
تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح.
بناء مجتمع معرفي.
توسيع الفرص الاقتصادية.
وتمثل أولويات الإصلاح هذه السبيل إلى تنمية المنطقة: فالديموقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية, والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية, والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية.
أولاً - تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح
"توجد فجوة كبيرة بين البلدان العربية والمناطق الأخرى على صعيد الحكم القائم على المشاركة ... ويضعف هذا النقص في الحرية التنمية البشرية, وهو احد التجليات الأكثر إيلاما للتخلف في التنمية السياسية". (تقرير التنمية البشرية, 2002 )
أن الديموقراطية والحرية ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية, لكنهما مفقودتان إلى حد بعيد في أرجاء الشرق الأوسط الكبير. وفي تقرير "فريدوم هاوس" للعام 2003, كانت إسرائيل البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير الذي صُنّف بأنه "حر", ووصفت أربعة بلدان أخرى فقط بأنها "حرة جزئياً". ولفت تقرير التنمية البشرية العربية إلى انه من بين سبع مناطق في العالم, حصلت البلدان العربية على أدنى درجة في الحرية في أواخر التسعينات. وأدرجت قواعد البيانات التي تقيس "التعبير عن الرأي والمساءلة" المنطقة العربية في المرتبة الأدنى في العالم. بالإضافة إلى ذلك, لا يتقدم العالم العربي إلا على أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على صعيد تمكين النساء. ولا تنسجم هذه المؤشرات المحبطة أطلاقا مع الرغبات التي يعبّر عنها سكان المنطقة. في تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2003, على سبيل المثال, تصدّر العرب لائحة من يؤيد, في أرجاء العالم, الرأي القائل بان "الديموقراطية أفضل من أي شكل آخر للحكم", وعبّروا عن أعلى مستوى لرفض الحكم الاستبدادي.
ويمكن لمجموعة الثماني أن تظهر تأييدها للإصلاح الديموقراطي في المنطقة عبر التزام ما يلي:
مبادرة الانتخابات الحرة
في الفترة بين 2004 و 2006, أعلنت بلدان عدة في الشرق الأوسط الكبير (2) نيتها إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية أو بلدية.
وبالتعاون مع تلك البلدان التي تظهر استعداداً جدياً لإجراء انتخابات حرة ومنصفة, يمكن لمجموعة الثماني أن ستقدم بفاعلية مساعدات لمرحلة ما قبل الانتخابات بـ:
تقديم مساعدات تقنية, عبر تبادل الزيارات أو الندوات, لإنشاء أو تعزيز لجان انتخابية مستقلة لمراقبة الانتخابات والاستجابة للشكاوى وتسلم التقارير.
تقديم مساعدات تقنية لتسجيل الناخبين والتربية المدنية إلى الحكومات التي تطلب ذلك, مع تركيز خاص على الناخبات.
الزيارات المتبادلة والتدريب على الصعيد البرلماني
من أجل تعزيز دور البرلمانات في دمقرطة البلدان, يمكن لمجموعة الثماني أن ترعى تبادل زيارات لأعضاء البرلمانات, مع تركيز الاهتمام على صوغ التشريعات وتطبيق الإصلاح التشريعي والقانوني وتمثيل الناخبين.
معاهد للتدريب على القيادة خاصة بالنساء
تشغل النساء 5,3 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية. ومن اجل زيادة مشاركة النساء في الحياة السياسية والمدنية, يمكن لمجموعة الثماني أن ترعى معاهد تدريب خاصة بالنساء تقدم تدريباً على القيادة للنساء المهتمات بالمشاركة في التنافس الانتخابي على مواقع في الحكم أو إنشاء/تشغيل منظمة غير حكومية. ويمكن لهذه المعاهد أن تجمع بين قياديات من بلدان مجموعة الثماني والمنطقة.
المساعدة القانونية للناس العاديين
في الوقت الذي نفذت فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي بالفعل مبادرات كثيرة لتشجيع الإصلاح القانوني والقضائي, فان معظمها يجرى على المستوى الوطني في مجالات مثل التدريب القضائي والإدارة القضائية وإصلاح النظام القانوني. ويمكن لمبادرة من مجموعة الثماني أن تكمّل هذه الجهود بتركيز الانتباه على مستوى الناس العاديين في المجتمع, حيث يبدأ التحسس الحقيقي للعدالة. ويمكن لمجموعة الثماني أن تنشئ وتموّل مراكز يمكن للأفراد أن يحصلوا فيها على مشورة قانونية بشأن القانون المدني أو الجنائي أو الشريعة, ويتصلوا بمحامي الدفاع (وهي غير مألوفة إلى حد كبير في المنطقة). كما يمكن لهذه المراكز أن ترتبط بكليات الحقوق في المنطقة.
مبادرة وسائل الإعلام المستقلة
يلفت تقرير التنمية البشرية العربية إلى هناك اقل من 53 صحيفة لكل 1000 مواطن عربي, بالمقارنة مع 285 صحيفة لكل ألف شخص في البلدان المتطورة, وان الصحف العربية التي يتم تداولها تميل إلى أن تكون ذات نوعية رديئة. ومعظم برامج التلفزيون في المنطقة تعود ملكيته إلى الدولة أو يخضع لسيطرتها, وغالباً ما تكون النوعية رديئة, إذ تفتقر البرامج إلى التقارير ذات الطابع التحليلي والتحقيقي. ويقود هذا النقص إلى غياب اهتمام الجمهور وتفاعله مع وسائل الإعلام المطبوعة, ويحد من المعلومات المتوافرة للجمهور. ولمعالجة ذلك, يمكن لمجموعة الثماني أن:
ترعى زيارات متبادلة للصحافيين في وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية.
ترعى برامج تدريب لصحافيين مستقلين.
تقدم زمالات دراسية لطلاب كي يداوموا في مدارس للصحافة في المنطقة أو خارج البلاد, وتمول برامج لإيفاد صحافيين أو أساتذة صحافة لتنظيم ندوات تدريب بشأن قضايا مثل تغطية الانتخابات أو قضاء فصل دراسي في التدريس في مدارس بالمنطقة.
الجهود المتعلقة بالشفافية / مكافحة الفساد
حدد البنك الدولي الفساد باعتباره العقبة المنفردة الأكبر في وجه التنمية, وقد أصبح متأصلاً في الكثير من بلدان الشرق الأوسط الكبير. ويمكن لمجموعة الثماني:
أن تشجع على تبني "مبادئ الشفافية ومكافحة الفساد" الخاصة بمجموعة الثماني.
أن تدعم علناً مبادرة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية/ برنامج الأمم المتحدة للتنمية في الشرق الأوسط - شمال أفريقيا, التي يناقش من خلالها رؤساء حكومات ومانحون وIFIs ومنظمات غير حكومية استراتيجيات وطنية لمكافحة الفساد وتعزيز خضوع الحكومة للمساءلة.
إطلاق واحد أو أكثر من البرامج التجريبية لمجموعة الثماني حول الشفافية في المنطقة.
المجتمع المدني
أخذاً في الاعتبار أن القوة الدافعة للإصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط الكبير يجب أن تأتي من الداخل, وبما أن أفضل الوسائل لتشجيع الإصلاح هي عبر منظمات تمثيلية, ينبغي لمجموعة الثماني أن تشجع على تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة. ويمكن لمجموعة الثماني أن:
تشجع حكومات المنطقة على السماح لمنظمات المجتمع المدني, ومن ضمنها المنظمات غير الحكومية الخاصة بحقوق الإنسان ووسائل الإعلام, على أن تعمل بحرية من دون مضايقة أو تقييدات.
تزيد التمويل المباشر للمنظمات المهتمة بالديموقراطية وحقوق الإنسان ووسائل الإعلام والنساء وغيرها من المنظمات غير الحكومية في المنطقة.
تزيد القدرة التقنية لمنظمات غير الحكومية في المنطقة بزيادة التمويل للمنظمات المحلية (مثل "مؤسسة وستمنسترفي المملكة المتحدة" أو "مؤسسة الدعم الوطني للديموقراطيةالأمريكية" لتقديم التدريب للمنظمات غير الحكومية في شأن كيفية وضع برنامج والتأثير على الحكومة وتطوير استراتيجيات خاصة بوسائل الإعلام والناس العاديين لكسب التأييد. كما يمكن لهذه البرامج أن تتضمن تبادل الزيارات وإنشاء شبكات إقليمية.
تمول منظمة غير حكومية يمكن أن تجمع بين خبراء قانونيين أو خبراء إعلاميين من المنطقة لصوغ تقويمات سنوية للجهود المبذولة من اجل الإصلاح القضائي أو حرية وسائل الإعلام في المنطقة. (يمكن بهذا الشأن الاقتداء بنموذج "تقرير التنمية البشرية العربية".)

ثانياً - بناء مجتمع معرفي
"تمثل المعرفة الطريق إلى التنمية والانعتاق, خصوصاً في عالم يتسم بعولمة مكثفة". (تقرير التنمية البشرية العربية, 2002 )
لقد أخفقت منطقة الشرق الأوسط الكبير, التي كانت في وقت مضى مهد الاكتشاف العلمي والمعرفة, إلى حد بعيد, في مواكبة العالم الحالي ذي التوجه المعرفي. وتشكل الفجوة المعرفية التي تعانيها المنطقة ونزف الأدمغة المتواصل تحدياً لآفاق التنمية فيها. ولا يمثل ما تنتجه البلدان العربية من الكتب سوى 1,1 في المائة من الإجمالي العالمي (حيث تشكل الكتب الدينية أكثر من 15 في المائة منها). ويهاجر حوالى ربع كل خريجي الجامعات, وتستورد التكنولوجيا إلى حد كبير. ويبلغ عدد الكتب المترجمة إلى اللغة اليونانية (التي لا ينطق بها سوى 11 مليون شخص) خمسة أضعاف ما يترجم إلى اللغة العربية.
وبالاستناد على الجهود التي تبذل بالفعل في المنطقة, يمكن لمجموعة الثماني أن تقدم مساعدات لمعالجة تحديات التعليم في المنطقة ومساعدة الطلاب على اكتساب المهارات الضرورية للنجاح في السوق المعولمة لعصرنا الحاضر.
مبادرة التعليم الأساسي
يعاني التعليم الأساسي في المنطقة من نقص (وتراجع) في التمويل الحكومي, بسبب تزايد الإقبال على التعليم متماشياً مع الضغوط السكانية, كما يعاني من اعتبارات ثقافية تقيّد تعليم البنات. وفي مقدور مجموعة الـ8 السعي إلى مبادرة للتعليم الأولي في منطقة الشرق الأوسط الكبرى تشمل هذه العناصر:
محو الأمية: أطلقت الأمم المتحدة في 2003 "برنامج عقد مكافحة الأمية" تحت شعار "محو الأمية كحرية". ولمبادرة مجموعة الـ8 لمكافحة الأمية أن تتكامل مع برنامج الأمم المتحدة , من خلال التركيز على إنتاج جيل متحرر من الأمية في الشرق الأوسط خلال العقد المقبل, مع السعي إلى خفض نسبة الأمية في المنطقة إلى النصف بحلول 2010 . وستركز مبادرة مجموعة الـ8 , مثل برنامج الأمم المتحدة , على النساء والبنات. وإذا أخذنا في الاعتبار معاناة 65 مليوناً من الراشدين في المنطقة من الأمية, يمكن لمبادرة مجموعة الـ8 أن تركز أيضا على محو الأمية بين الراشدين وتدريبهم من خلال برامج متنوعة, من مناهج تدريس على انترنت إلى تدريب المعلمين.
فرق محو الأمية: يمكن لمجموعة الـ8 , سعياً إلى تحسين مستوى القراءة والكتابة لدى الفتيات, إنشاء أو توسيع معاهد تدريب المعلمين مع التركيز على النساء. ولمعلمات المدارس والمختصات بالتعليم القيام في هذه المعاهد بتدريب النساء على مهنة التعليم (هناك دول تحرم تعليم الذكور للإناث), لكي يركزن بدورهن على تعليم البنات القراءة وتوفير التعليم الأولي لهن. للبرنامج أيضاً استخدام الإرشادات المتضمنة في برنامج "التعليم للجميع" التابع لـ"اليونيسكو", بهدف إعداد "فرق محو الأمية" التي يبلغ تعدادها بحلول 2008 مئة ألف معلمة.
الكتب التعليمية: يلاحظ تقرير التنمية البشرية العربية نقصاً مهماً في ترجمة الكتب الأساسية في الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع وعلوم الطبيعة, كما تلاحظ "الحالة المؤسفة للمكتبات" في الجامعات. ويمكن لكل من دول مجموعة الـ8 تمويل برنامج لترجمة مؤلفاتها "الكلاسيكية" في هذه الحقول, وأيضاً, وحيث يكون ذلك مناسباً, تستطيع الدول أو دور النشر (في شراكة بين القطاعين العام والخاص) إعادة نشر الكتب الكلاسيكية العربية الخارجة عن التداول حالياً والتبرع بها إلى المدارس والجامعات والمكتبات العامة المحلية.
مبادرة مدارس الاكتشاف: بدأ الأردن بتنفيذ مبادرته لإنشاء "مدارس الاكتشاف" حيث يتم استعمال التكنولوجيا المتقدمة ومناهج التعليم الحديثة. ولمجموعة الـ8 السعي إلى توسيع هذه الفكرة ونقلها إلى دول أخرى في المنطقة من طريق التمويل, من ضمنه من القطاع الخاص.
إصلاح التعليم: ستقوم "المبادرة الأمريكية للشراكة في الشرق الأوسط" قبل قمة مجموعة الـ8 المقبلة (في آذار/ مارس أو نيسان/ أبريل) برعاية "قمة الشرق الأوسط لإصلاح التعليم", التي ستكون ملتقى لتيارات الرأي العام المتطلعة إلى الإصلاح والقطاع الخاص وقادة الهيئات المدنية والاجتماعية في المنطقة ونظرائهم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي, وذلك لتحديد المواقع والمواضيع التي تتطلب المعالجة, والتباحث في سبل التغلب على النواقص في حقل التعليم. ويمكن عقد القمة في ضيافة مجموعة الـ8 توخياً لتوسيع الدعم لمبادرة منطقة الشرق الأوسط الكبرى عشية عقد القمة.
مبادرة التعليم في انترنت
تحتل المنطقة المستوى الأدنى من حيث التواصل مع انترنت. ومن الضروري تماماً تجسير "الهوة الكومبيوترية" هذه بين المنطقة وبقية العالم نظراً إلى تزايد المعلومات المودعة على انترنت وأهمية انترنت بالنسبة للتعليم والمتاجرة. ولدى مجموعة الـ8 القدرة على إطلاق شراكة بين القطاعين العام والخاص لتوفير الاتصال الكومبيوتري أو توسيعه في أنحاء المنطقة, وأيضاً بين المدن والريف داخل البلد الواحد. وقد يكون من المناسب أكثر لبعض المناطق توفير الكومبيوترات في مكاتب البريد, مثلما يحصل في بلدات وقرى روسيا. وقد يركز المشروع أولا على بلدان الشرق الأوسط الأقل استخداما للكومبيوتر (العراق, أفغانستان, باكستان , اليمن, سوريا, ليبيا, الجزائر, مصر, المغرب), والسعي, ضمن الإمكانات المالية, إلى توفير الاتصال بالكومبيوتر إلى أكثر ما يمكن من المدارس ومكاتب البريد.
ومن الممكن أيضاً ربط مبادرة تجهيز المدارس بالكومبيوتر بـ"بمبادرة فرق محو الأمية" المذكورة أعلاه, أي قيام مدرسي المعاهد بتدريب المعلمين المحليين على تطوير مناهج دراسية ووضعها على انترنت, في مشروع يتولى القطاع الخاص توفير معداته ويكون متاحاً للمعلمين والطلبة.
مبادرة تدريس إدارة الأعمال
لمجموعة الـ8 في سياق السعي إلى تحسين مستوى إدارة الأعمال في عموم المنطقة إقامة الشراكات بين مدارس الأعمال في دول مجموعة الـ8 والمعاهد التعليمية (الجامعات والمعاهد المتخصصة) في المنطقة. وبمقدور مجموعة الـ8 تمويل هيئة التعليم والمواد التعليمية في هذه المعاهد المشتركة, التي تمتد برامجها من دورة تدريبية لمدة سنة للخريجين إلى دورات قصيرة تدور على مواضيع محددة, مثل إعداد خطط العمل للشركات أو استراتيجيات التسويق.
النموذج لهذا النوع من المعاهد قد يكون معهد البحرين للمصارف والمال, وهو مؤسسة بمدير أمريكي ولها علاقة شراكة مع عدد من الجامعات الأمريكية.
توسيع الفرص الاقتصادية
تجسير الهوة الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير يتطلب تحولا اقتصاديا يشابه في مداه ذلك الذي عملت به الدول الشيوعية سابقاً في أوروبا الشرقية. وسيكون مفتاح التحول إطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة, خصوصاً مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة, التي تشكل المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وسيكون نمو طبقة متمرسة في مجال الأعمال عنصراً مهماً لنمو الديموقراطية والحرية. ويمكن لمجموعة الـ8 في هذا السياق اتخاذ الخطوات التالية:
مبادرة تمويل النمو
تقوية فاعلية القطاع المالي عنصر ضروري للتوصل إلى نسب أعلى للنمو وخلق فرص العمل. ولمجموعة الـ8 أن تسعى إلى إطلاق مبادرة مالية متكاملة تتضمن العناصر التالية:
إقراض المشاريع الصغيرة: هناك بعض المؤسسات المختصة بتمويل المشاريع الصغيرة في المنطقة لكن العاملين في هذا المجال لا يزالون يواجهون ثغرات مالية كبيرة. إذ لا يحصل على التمويل سوى خمسة في المائة من الساعين إليه, ولا يتم عموما تقديم أكثر من 0.7 في المائة من مجموع المال المطلوب في هذا القطاع. وبإمكان مجموعة الـ8 المساعدة على تلافي هذا النقص من خلال تمويل المشاريع الصغيرة, مع التركيز على التمويل بهدف الربح, خصوصاً للمشاريع التي تقوم بها النساء. مؤسسات الإقراض الصغير المربح قادرة على إدامة نفسها ولا تحتاج إلى تمويل إضافي للاستمرار والنمو. ونقدّر أن في امكان قرض من 400 مليون دولار إلى 500 مليون دولار يدفع على خمس سنوات مساعدة 1.2 مليون ناشط اقتصادي على التخلص من الفقر, 750 ألفا منهم من النساء.
مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير: باستطاعة مجموعة الـ8 المشاركة في تمويل مؤسسة على طراز "مؤسسة المال الدولية" للمساعدة على تنمية مشاريع الأعمال على المستويين المتوسط والكبير, بهدف التوصل إلى تكامل اقتصادي لمجال الأعمال في المنطقة. وربما الأفضل إدارة هذه المؤسسة من قبل مجموعة من قادة القطاع الخاص في مجموعة الـ8 يقدمون خبراتهم لمنطقة الشرق الأوسط الكبير.
بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير: في امكان مجموعة الـ8 ومشاركة مقرضين من منطقة الشرق الأوسط الكبير نفسها, إنشاء مؤسسة إقليمية للتنمية على غرار "البنك الأوروبي للإعمار والتنمية" لمساعدة الدول الساعية إلى الإصلاح على توفير الاحتياجات الأولية للتنمية. كما تستطيع المؤسسة الجديدة توحيد القدرات المالية لدول المنطقة الأغنى وتركيزها على مشاريع لتوسيع انتشار التعليم والعناية الصحية والبنى التحتية الرئيسية. ولـ"بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير" هذا أن يكون مذخراً للمساعدة التكنولوجية واستراتيجيات التنمية لبلدان المنطقة. اتخاذ قرارات الإقراض (أو المنح) يجب أن تتحدد بحسب قدرة البلد المقترض على القيام بإصلاحات ملموسة.
الشراكة من أجل نظام مالي أفضل: بمقدور مجموعة الـ8 , توخيا لإصلاح الخدمات المالية في المنطقة وتحسين اندماج بلدانها في النظام المالي العالمي, أن تعرض مشاركتها في عمليات إصلاح النظم المالية في البلدان المتقدمة في المنطقة. وسيكون هدف المشاركة إطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها في عموم المنطقة, من خلال تقديم تشكيلة من المساعدات التقنية والخبرات في مجال الأنظمة المالية مع التركيز على:
- تنفيذ خطط الإصلاح التي تخفض سيطرة الدولة على الخدمات المالية.
- رفع الحواجز على التعاملات المالية بين الدول.
- تحديث الخدمات المصرفية.
- تقديم وتحسين وتوسيع الوسائل المالية الداعمة لاقتصاد السوق.
- إنشاء الهياكل التنظيمية الداعمة لإطلاق حرية الخدمات المالية.

مبادرة التجارة
أن حجم التبادل التجاري في الشرق الأوسط متدن جداً, إذ لا يشكل سوى ستة في المائة من كل التجارة العربية. ومعظم بلدان الشرق الأوسط الكبير تتعامل تجارياً مع بلدان خارج المنطقة, وتوصلت إلى اتفاقات تجارية تفضيلية مع أطراف بعيدة جداً بدلاً من جيرانها. ونتيجة لذلك, أصبحت الحواجز الجمركية وغير الجمركية هي الشيء المعتاد, فيما لا تزال التجارة عبر الحدود شيئاً نادراً. ويمكن لمجموعة الثمانية أن تنشئ مبادرة جديدة مصممة لتشجيع التجارة في الشرق الأوسط الكبير, تتألف من العناصر التالية:
الانضمام/ التنفيذ على صعيد منظمة التجارة الدولية وتسهيل التجارة
يمكن لمجموعة الثمانية أن تزيد تركيزها على انضمام البلدان في المنطقة إلى منظمة التجارة الدولية. (3) وستتضمن برامج محددة للمساعدة التقنية توفير مستشارين يعملون في البلد ذاته في شأن الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية وتحفيز التزام واسع من مجموعة الـ8 لتشجيع عملية الانضمام, بما في ذلك تركيز الاهتمام على تحديد وإزالة الحواجز غير الجمركية. وحالما ينجز الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية, سيتحول مركز الاهتمام إلى توقيع التزامات إضافية لمنظمة التجارة الدولية, مثل "الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية" و"اتفاق مشتريات الحكومة" وربط استمرار المساعدة التقنية بتنفيذ هذه الالتزامات الخاصة بمنظمة التجارة الدولية. ويمكن لهذه المساعدات التقنية أن تربط أيضا ببرنامج على صعيد المنطقة برعاية مجموعة الـ8 بشأن التسهيلات والجوانب اللوجستية المتعلقة بالرسوم الجمركية للحد من الحواجز الإدارية والمادية بوجه التبادل التجاري بين بلدان المنطقة.
المناطق التجارية
ستنشئ مجموعة الـ8 مناطق في الشرق الوسط الكبير للتركيز على تحسين التبادل التجاري في المنطقة والممارسات المتعلقة بالرسوم الجمركية. وستتيح هذه المناطق مجموعة متنوعة من الخدمات لدعم النشاط التجاري للقطاع الخاص والصلات بين المشاريع الخاصة, بما في ذلك "التسوق من منفذ واحد" للمستثمرين الأجانب, وصلات مع مكاتب الجمارك لتقليل الوقت الذي يستغرقه إنجاز معاملات النقل, وضوابط موحدة لتسهيل دخول وخروج السلع والخدمات من المنطقة.
مناطق رعاية الأعمال
بالاستناد على النجاح الذي حققته مناطق التصدير ومناطق التجارة الخاصة في مناطق أخرى, يمكن لمجموعة الـ8 أن تساعد على إقامة مناطق محددة خصيصاً في الشرق الأوسط الكبير تتولى تشجيع التعاون الإقليمي في تصميم وتصنيع وتسويق المنتجات. ويمكن لمجموعة الـ8 أن تعرض منافذ محسّنة إلى أسواقها لهذه المنتجات, وتقدم خبراتها في إنشاء هذه المناطق.
منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير
لتشجيع التعاون الإقليمي المحسّن, يمكن لمجموعة الـ8 أن تنشئ "منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط" الذي سيجمع مسئولين كباراً من مجموعة الـ8 والشرق الأوسط الكبير (مع امكان عقد اجتماعات جانبية لمسئولين وأفراد غير حكوميين من وسط رجال الأعمال) لمناقشة القضايا المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي.
ويمكن للمنبر أن يستند في شكل مرن على نموذج رابطة آسيا - المحيط الهادئ للتعاون الاقتصادي (أبك), وسيغطي قضايا اقتصادية إقليمية, من ضمنها القضايا المالية والتجارية وما يتعلق بالضوابط.
(1) يشير "الشرق الأوسط الكبير" إلى بلدان العالم العربي, زائداً باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل.
(2) تخطط أفغانستان والجزائر والبحرين وإيران ولبنان والمغرب وقطر والسعودية وتونس وتركيا واليمن لإجراء انتخابات.
(3) البلدان التي قدمت طلباً للانضمام إلى منظمة التجارة الدولية (شكلت لجنة عمل تابعة للمنظمة): الجزائر ولبنان والسعودية واليمن. بلدان قدمت طلباً للانضمام (لم يُنظر بعد في الطلب): أفغانستان وإيران وليبيا وسوريا. بلدان طلبت منحها صفة مراقب: العراق.



النص الكامل لخطاب وزير الخارجية كولن باول حول مشروع الشرق الأوسط الجديد
بداية النص
مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط بناء الأمل للسنين القادمة.
خطاب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية كولن باول في مؤسسة التراث
12 كانون الأول، ديسمبر، ‏‏2002
شكرا جزيلا، يا ايد لتلك المقدمة الحارة. شكرا لك ولمؤسسة التراث لدعوتي إلى هنا لكي أناقش الآمال والتطلعات التي نتقاسمها مع شعوب الشرق الأوسط.
وأود أيضا أن أرحب بضيوفنا الممتازين الآخرين من السلك الدبلوماسي، والعاملين في الكونغرس، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص. شكرا لكم لتخصيصكم الوقت للمجيء اليوم.
وإنه لمن المناسب أن نجتمع في مؤسسة التراث. ذلك أن رؤيا المؤسسة، ببناء وطن تزدهر فيه الحرية، والفرص، والرخاء، والمجتمع المدني، هي نفس الرؤيا التي نتقاسمها مع شعوب الشرق الأوسط لبلدانها. الشرق الأوسط هو منطقة شاسعة فائقة الأهمية للشعب الأمريكي.
فالملايين منا يتعبدون في كنائس، ومساجد، ومعابد يهودية، مبشرين بالديانات العظيمة الثلاث التي ولدت في الأراضي الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج الفارسي.
ولغتنا وتقاليدنا حافلة بإشارات إلى بيت المقدس وبيت لحم ومكة المكرمة.
ودليل الهاتف لدينا يحمل تلك الأسماء أمثال موسافي، ليفي، وشاهين -- التي تتحدث عن جذور عائلات عريقة في الشرق الأوسط.
ومزارعونا يزرعون القمح، وعمالنا يصنعون طائرات، وأجهزة كمبيوتر، ومنتجات أخرى عديدة نبيعها لدول المنطقة، بينما الأموال تتدفق من مستثمرين في الشرق الأوسط إلى بلدنا.
ومن المفجع أن آلافا من رجالنا ونسائنا ماتوا في 11 أيلول / سبتمبر ، 2001 ، على أيدي إرهابيين ولدوا وأصبحوا راديكاليين هناك.
واعترافا منا بأهمية المنطقة، كرّسنا دمنا ومالنا لمساعدة شعوب وحكومات الشرق الأوسط على مدى نصف قرن من الزمن وأكثر.
والحقيقة، أن سيرتي في الخدمة العامة صاغتها الأحداث هناك. فقد كان لي امتياز أن أكون رئيس هيئة الأركان المشتركة عندما قادة الولايات المتحدة التحالف الدولي، بما فيه عدد كبير من الدول العربية، الذي أخرج الغزاة العراقيين من الكويت . واليوم، كوزير للخارجية، يتطلب الشرق الأوسط قدرا عظيما من اهتمامي.
وقد شددت سياستنا الشرق أوسطية كحكومة، على كسب الحرب ضد الإرهاب، وتجريد العراق من الأسلحة، وإنهاء النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.
والحرب على الإرهاب لا تقتصر على الشرق الأوسط، طبعا، غير أن أصدقاءنا هناك لهم مصلحة مهمة بها بوجه خاص. فقد عانى كثيرون من بلاء الإرهاب مباشرة. ويسرني أن أصدقاءنا سارعوا لمواجهة التحدي بأن منحوا حقوق إنشاء قواعد لعملية الحرية المستديمة في أفغانستان، ومبادلتهم المعلومات الاستخباراتية وتلك المتعلقة بتنفيذ القانون، واعتقالهم إرهابيين مشتبها بهم، وفرضهم قيودا على التمويل الإرهابي.

وعلينا أيضا، مع دول الشرق الأوسط، ومع أصدقائنا وحلفائنا، ومجتمع الدول، أن نعالج أيضا الخطر الجسيم والمتنامي الذي يشكله نظام صدام حسين العراقي. وقد أعطى مجلس الأمن الدولي، بموافقته الإجماعية على القرار 1441، العراق فرصة أخيرة للوفاء بالتزاماته. فالنظام العراقي يمكنه إما أن ينزع أسلحته، أو أنه سيجرّد منها. الخيار خيارهم-- لكنه لا يمكن أن يؤجل بعد الآن.
ولدينا أيضا اهتمام قومي عميق وثابت بإنهاء النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. ونحن نعمل مع أصدقائنا في المنطقة ومع المجتمع الدولي، لتحقيق سلام دائم يرتكز على رؤيا الرئيس بوش لدولتين تعيشان جنبا إلى جنب، في سلام وأمن. وهذا السلام سيتطلب من الفلسطينيين قيادة جديدة ومختلفة، ومؤسسات جديدة، ونهاية للإرهاب والعنف. وإذ يحقق الفلسطينيون تقدما في هذا الاتجاه، سيكون مطلوبا من إسرائيل أيضا أن تجري خيارات صعبة، بما فيها إنهاء جميع أوجه النشاط المتعلق بالاستيطان، بصورة تتمشى مع تقرير ميتشل.
وكما قال الرئيس بوش، إنه بجهد مكثف من قبل الجميع، سيكون إيجاد دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرا ممكنا في عام 2005.
إن هدفنا النهائي هو تسوية عادلة وشاملة عربيةإسرائيلية، تكون فيها جميع شعوب المنطقة مقبولة كجيران، تعيش في سلام وأمن.
وقد كانت هذه التحديات ولا تزال في مقدمة سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية, ولسبب وجيه. فكل منها يؤثر تأثيرا عميقا على مصالحنا القومية، وعلى مصالح الشعوب التي تعتبر الشرق الأوسط وطنا لها. ونحن ما زلنا ملتزمين التزاما عميقا بمواجهة كل واحد من هذه التحديات بهمة وعزم وتصميم.
وفي الوقت نفسه أصبح واضحا بصورة متزايدة أنه يجب علينا أن نوسع تعاطينا مع المنطقة إذا كان لنا أن نحقق نجاحا. وعلينا خصوصا أن نوجه اهتماما متواصلا ونشيطا إلى الإصلاح الاقتصادي، والسياسي، والتعليمي. وعلينا أن نعمل مع شعوب وحكومات لسد الفجوة بين التوقع والواقع التي دعتها الملكة رانيا ملكة الأردن بصورة بليغة، فجوة الأمل.
وقد أوجد انتشار الديمقراطية والأسواق الحرة، التي ألهبتها عجائب الثورة التكنولوجية، قوة محركة تستطيع أن تولد ازدهارا ورفاها إنسانيا على نطاق لم يسبق له مثيل. إلا أن هذه الثورة خلفت الشرق الأوسط وراءها إلى حد كبير.
لقد قدمت دول الشرق الأوسط على مدى التاريخ، مساهمات لا تقدر بثمن للعلوم والفنون. لكن اليوم، توجد شعوب كثيرة هناك تفتقر إلى ذات الحرية السياسية والاقتصادية، وفاعلية المرأة، والتعليم الحديث التي تحتاج إليها لكي تزدهر في القرن أل 21. وكما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 ، الذي وضعه أساتذة عرب بارزون وأصدرته الأمم المتحدة ، فإن سكان المنطقة يواجهون خيارا أساسيا -- بين "كسل وجمود… (و) نهضة عربية تبني مستقبلا زاهرا لجميع العرب.
هذه ليست كلماتي. إنها كلمات خبراء عرب نظروا بعمق إلى القضايا. وهي تستند إلى الحقائق الصارخة.
إن حوالي 14 مليون راشد عربي يفتقرون إلى وظائف هم بحاجة إليها لوضع طعام على موائدهم، وسقوف فوق رؤوسهم، وأمل في قلوبهم. وسيدخل زهاء 50 مليون عربي آخر من الشبان والشابات سوق الوظائف المزدحم أصلا خلال الأعوام الثمانية القادمة.
إلا أن الاقتصاديات لا تولد ما يكفي من الوظائف. فالنمو ضعيف. والناتج المحلي الإجمالي ل 260 مليون عربي هو أقل من ذاك الذي لأربعين مليون أسباني، كما أنه آخذ في التدهور حتى أكثر من ذلك. أضيفوا إلى ذلك إنتاج أل 67 مليون إيراني والنتيجة تبقى مجرد ثلثي الناتج الإيطالي.
داخليا، كثير من الاقتصاديات تخنقها التنظيمات والمحسوبيات، وتنغلق في وجه مغامرات في التجارة والأعمال، وفي وجه استثمار وتجارة.
ودول الشرق الأوسط غائبة أيضا إلى حد كبير عن الأسواق العالمية. إنها بالكاد تولّد 1 بالمئة من صادرات العالم غير النفطية. وهناك عشر دول شرق أوسطية فقط تنتمي إلى منظمة التجارة العالمية. وكما حذر الرئيس المصري حسني مبارك، "إعطاء دعم للصادرات هو قضية حياة أو موت.
إن العجز في الفرص الاقتصادية هو تذكرة إلى اليأس. وهو، إضافة إلى الأنظمة السياسية المتصلبة، خميرة خطرة حقا. وإلى جانب اقتصاديات أكثر تحررا، يحتاج كثير من شعوب الشرق الأوسط إلى صوت سياسي أقوى.
إننا نرفض الفكرة المتعالية القائلة إن الحرية لن تنمو في الشرق الأوسط، أو أن هناك أي منطقة في العالم لا تستطيع أن تحتمل الديمقراطية.
وقد جسد الرئيس بوش تطلعات الشعوب في كل مكان عندما قال، في خطابه في وست بوينت، إنه عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحاجات المشتركة للرجال والنساء، ليس هناك تصادم حضارات. فمتطلبات الحرية تنطبق كليا على أفريقيا وأميركا اللاتينية وكامل العالم الإسلامي.
وإذا أعطيت الشعوب خيارا بين الطغيان والحرية، فإنها تختار الحرية. علينا فقط أن ننظر إلى شوارع كابول، المزدحمة بأشخاص يحتفلون بانتهاء حكم طالبان في العام الماضي.
وهناك بصيص أمل في الشرق الأوسط أيضا. فدول أمثال البحرين، وقطر، والمغرب قامت بإصلاحات سياسية جريئة. والمنظمات المدنية ناشطة بصورة متزايدة في كثير من الدول العربية، تعمل في قضايا تتعلق بالخبز والزبدة مثل تأمين بطاقات هوية للنساء توجد حاجة ماسة إليها.
ونحن نرى أيضا ثورة عارمة في وسائل الإعلام، من محطات التلفزيون الفضائية إلى مجلات أسبوعية صغيرة الحجم. وعلى الرغم من أن البعض منها لم يرق بعد إلى مستوى مسؤولياته للقيام بتغطية مسئولة وتقديم معلومات واقعية، فإنه يجعل المعلومات في متناول أعداد من السكان أكثر من أي وقت مضى.
ومع ذلك، ما زالت تحكم كثيرا من الشرق أوسطيين أنظمة سياسة مغلقة." وكثير من الحكومات يكافح مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها تهديدا، بدلا من أن يرحب بها كأساس لمجتمع حر، ديناميكي، ومبشر بالأمل. ناهيك عن أن لغة الكراهية والاستبعاد والتحريض على العنف لا تزال هي اللغة السائدة.
وكما قال الملك محمد عاهل المغرب لبرلمان بلده قبل سنتين، إنه "لتحقيق التنمية، والديمقراطية، والتحديث، من الضروري تحسين وتقوية الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، والجمعيات، ووسائل الإعلام وتوسيع مدى المشاركة."
وأخيرا، إن عددا كبيرا من أطفال المنطقة يفتقر إلى المعرفة ليستفيد من عالم من الحرية الاقتصادية والسياسية. فعشرة ملايين طالب في سن الدراسة هم إما في المنازل، أو يعملون، أو في الشوارع بدلا من أن يكونوا في صفوفهم المدرسية. وحوالي 65 مليون من آبائهم لا يحسنون القراءة أو الكتابة، دع عنك مساعدتهم في دروسهم. وبالكاد يستطيع شخص واحد من كل مائة الوصول إلى كمبيوتر. ومن أولئك النصف فقط يستطيع الوصول إلى العالم الأوسع عبر الإنترنت.
وحتى عندما يذهب الأطفال فعلا إلى المدرسة، غالبا ما يتعذر عليهم تعلم المهارات التي يحتاجون إليها لكي ينجحوا في القرن أل 21. "التعليم" غالبا ما يعني الاستظهار من غير فهم بدلا من التفكير الخلاق الحيوي الضروري للنجاح في عالمنا المتصف بالعولمة.
وقد وجد واضعو تقرير التنمية العربية أن "التعليم أخذ يفقد دوره الهام كوسيلة لتحقيق تنمية اجتماعية في الدول العربية، متحولا عوضا عن ذلك إلى وسيلة لاستدامة الفقر والطبقات الاجتماعية." وتلك إدانة دامغة ودعوة للعمل.
وهناك موضوع دائم يبرز من خلال هذه التحديات، ألا وهو تهميش المرأة في كثير من دول الشرق الأوسط. فأكثر من نصف نساء العالم العربي هن أميات. وهن يعانين أكثر من جراء البطالة والافتقار إلى فرص اقتصادية. وتشكل النساء أيضا نسبة من أعضاء البرلمانات في العالم العربي أصغر منها في أي منطقة أخرى في العالم.
وإلى أن تطلق دول الشرق الأوسط العنان لقدرات نساءهن، لن تبني مستقبلا من الأمل. إن أي معالجة للشرق الأوسط تتجاهل تخلفه السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، ستكون مبنية على رمال. سيداتي، سادتي، حان الوقت لوضع أساس متين من الأمل. إنني أعلن اليوم مبادرة تضع الولايات المتحدة بثبات في جانب تغيير، وإصلاح، ومستقبل حديث للشرق الأوسط.
خلال زيارة الرئيس مبارك لواشنطن في آذار / مارس الماضي، طلب مني الرئيس بوش أن أتولى رئاسة جهد جديد للحكومة الأمريكية لدعم شعوب وحكومات الشرق الأوسط في جهودها لمواجهة هذه التحديات الإنسانية الملحة.
ويسرني أن أعلن النتائج الأولية لعملنا-- مجموعة مبتكرة من البرامج وإطار لتعاون مستقبلي نسميها مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.
إن مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط هي جسر بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، بين حكومتينا وشعبينا، يسد فجوة الأمل بالطاقة، والأفكار، والأموال.
ومبادرة شراكتنا هي استمرار، وتصعيد لالتزامنا القائم منذ زمن طويل بالعمل مع جميع شعوب الشرق الأوسط لتحسين حياتها اليومية ومواجهة المستقبل بأمل.
وكما أن قرارنا إعادة الانتساب إلى اليونسكو هو رمز على التزامنا بتعزيز حقوق الإنسان والتسامح والتعلم، فإن هذه المبادرة هي دليل قوي على التزامنا بكرامة الإنسان في الشرق الأوسط.
إننا سنخصص بصورة أولية مبلغ 29 مليون دولار لجعل هذه المبادرة تنطلق بقوة. وسنعمل مع الكونغرس للحصول على تمويل جوهري إضافي للعام القادم. وهذه الأموال ستكون زيادة على الأكثر من مبلغ الألف مليون دولار الذي نقدمه كمساعدة اقتصادية للعالم العربي كل عام.
وتستند مبادرتنا إلى ثلاث ركائز.
إننا سنشترك مع مجموعات من القطاعين الخاص والعام لسد فجوات الوظائف بإصلاح اقتصادي، واستثمار للأعمال، وتنمية القطاع الخاص.
وسنشترك مع قادة المجتمع لسد فجوة الحرية بمشاريع لتقوية المجتمع المدني، وتوسيع المشاركة السياسية، ورفع أصوات النساء.
وسنعمل مع المربين لسد فجوة المعرفة بمدارس أفضل ومزيد من الفرص للتعليم العالي.
سيداتي، سادتي، الأمل يبدأ براتب عمل. وذلك يتطلب اقتصادا مليئا بالحيوية والنشاط. وعن طريق مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، سنعمل مع حكومات لإنشاء أحكام وأنظمة اقتصادية ستجتذب الاستثمار الأجنبي وتتيح للقطاع الخاص أن يزدهر.
وسنساعد شركات الأعمال الصغيرة والمتوسطة على تحقيق وصول إلى الرأسمال الذي هو قوام الحياة. وكخطوة أولى، يسرني أن أعلن أننا سننشئ صناديق أموال للمشاريع في الشرق الأوسط، على غرار المشاريع البولندية-الأمريكية الناجحة، للبدء في الاستثمار فورا في أعمال جديدة واعدة.
وسنساعد أيضا مزيدا من الدول على المشاركة في سخاء الاقتصاد العالمي. وذلك يعني تقديم مساعدة فنية إلى الدول الأعضاء الطموحة في منظمة التجارة العالمية كالمملكة العربية السعودية، والجزائر، ولبنان ، واليمن، لتلبية معايير منظمة التجارة العالمية.
وهو يعني البناء على اتفاقنا الناجح للتجارة الحرة مع الأردن بالبدء بمفاوضات اتفاق تجارة حرة مع المغرب. وهو يعني الاستمرار في العمل مع دول كمصر والبحرين لاستكشاف طرق لتعزيز علاقتنا الثنائية من التجارة الاقتصادية، بما في ذلك عبر اتفاقات تجارة حرة ممكنة.
وتتطلب الاقتصاديات المنفتحة أنظمة سياسية منفتحة. وعليه فإن الركيزة الثانية لمبادرتنا من الشراكة ستدعم المواطنين عبر المنطقة الذين يطالبون بأصواتهم السياسية.
وقد بدأنا المشروع الاختباري الأول في هذا المجال الشهر الماضي، عندما أحضرنا وفدا من 55 زعيمة سياسية عربية إلى الولايات المتحدة لمشاهدة انتخاباتنا النصفية.
وقد عقدت اجتماعا عظيما جدا مع هذه المجموعة الرائعة، وكان التزامها وطاقتها مصدر الهام لي. وقد وجهت إلى أسئلة صعبة، وناقشنا القضايا كما يفعل الناس في مجتمعات حرة.
وقد تحدثت أولئك النساء إلى ببلاغة عن قلقهن بالنسبة إلى المستقبل وأحلامهن بعالم حيث يمكن لأطفالهن أن يعيشوا في سلام. وحدثنني عن أملهن بأن يرين نهاية للنزاعات التي تشل منطقتهن. وتحدثن إلي كيف يردن أن يتحكمن بحياتهن ومصائرهن. وطلبن أن يعرفن المزيد عن الديمقراطية الأمريكية، وكيف يجعلن أصواتهن أكثر فعالية.
وتتطلب زيادة المشاركة السياسية أيضا تقوية المؤسسات المدنية التي تحمي حقوق الأفراد وتوفر فرصا للمشاركة. وعن طريق مبادرتنا للمشاركة سندعم هذه الجهود.
ولكي تعمل الاقتصاديات الحرة والأنظمة السياسية بنجاح فإنها تحتاج إلى مواطنين متعلمين، وعليه ستركز الركيزة الثالثة لمبادرة التعاون بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط على إصلاح تعليمي.
وستشدد برامجنا على تعليم الفتيات. فعندما تتحسن نسبة التعليم بين الفتيات، تتحسن كذلك جميع مؤشرات التنمية المهمة الأخرى في أي بلد. ولقد أصاب شاعر النيل حافظ إبراهيم عندما قال:
"الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق"
وسنوفر منحا دراسية لإبقاء الفتيات في المدارس وتوسيع التعليم للفتيات والنساء. وبصورة أوسع، سنعمل مع الأبوين والمربين لتعزيز الإشراف المحلي وإشراف الأبوين على الأنظمة المدرسية.
وفي كل واحد من هذه المجالات الثلاثة، نحن ملتزمون بمشاركة أصيلة في اتجاهين. مشاركة مع المواطنين ودول المنطقة، ومع الكونغرس، وحتى مع جهات مانحة أخرى بينما ننفذ هذه الأجندة.
إن هذه المبادرة هي من المشاريع الأكثر تحديا التي درسناها نحن وشركاؤنا في المنطقة. وعلينا أن نكون واقعيين بشأن العقبات القائمة على الطريق أمامنا، وبشأن الوقت الذي ستستغرقه لرؤية تغير حقيقي يتجذر، وبشأن الدور المحدود الذي تستطيع جهات خارجية أن تقوم به. وعلينا أن ندرك بأن مصلحة الشرق الأوسط الحقيقية بجب أن تدفع بهذه المبادرة إلى الأمام، وأن المشاركة الشرق أوسطية هي وحدها التي ستحافظ عليها. لكن علينا أيضا ألا نقنع بتوقعات منخفضة. فكما يظهر الاختمار في المنطقة، فإن شعوب الشرق الأوسط نفسها تتملكها هذه القضايا.
ونحن لا نبدأ من لا شيء. فإننا نعمل الآن بنجاح فعلا مع مجموعة واسعة من الشركاء. مثلا، أعلنا في الشهر الماضي إنشاء "مؤسسة ليد" التي تشترك فيها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مع البنك الدولي والقطاع الخاص المصري لدعم إقراض المشاريع الصغيرة في مصر.
إضافة إلى ذلك، نشترك فعلا، عن طريق شراكتنا من أجل التعلم، مع دول المنطقة في تدريب المعلمين، وتعليم اللغة الإنكليزية، وبرامج أخرى لتقوية أنظمتها التعليمية.
والحقيقة أن جزءا مهما من عملنا سيتناول مراجعة برامجنا القائمة للاستفادة منها والتأكد من أن برامجنا الحالية تلامس أكبر عدد ممكن من الأرواح.
كما أننا لا ندافع عن الأسلوب القائل إن "حجما واحدا يلائم الجميع." فالمنطقة كثيرة التنوع بالنسبة إلى ذلك الأمر. لكننا سنكون على الأرض نصغي ونعمل للتأكد من أن برامجنا مفصلة لتلائم حاجات الشعوب حيثما كانت تعيش.
وإننا بمبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط نعترف بأن الأمل المبني على فرصة اقتصادية، وسياسية، وتعليمية هو حاسم لنجاح جميع جهودنا، وأن نجاح هذه الجهود الأخرى هو، بدوره، ضروري لإيجاد أمل.
لقد شاهدت خلال جولاتي في الشرق الأوسط، في الحياة العامة والخاصة، عن كثب طاقة، وإبداع، وتفاني الأبوين وهما يحاولان بناء مستقبل أفضل لأطفالهما. لكنني شاهدت أيضا إحباطهما عندما كان التقدم بطيئا جدا. علينا أن نسير قدما بخطى أسرع. ولسوف نسير بخطى أسرع.
إننا عبر مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، نضيف أملا إلى أجندة الولايات المتحدة والشرق الأوسط. وإننا سنستخدم طاقتنا، وقدراتنا، ومثاليتنا لجلب الأمل إلى جميع عباد الله الذين يعتبرون الشرق الأوسط وطنا لهم. شكرا لكم.
نقلا عن موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الإنترنت
مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية
بيان حقائق صادر عن وزارة الخارجية
(بداية النص)
وزارة الخارجية الأمريكية
مكتب شؤون الشرق الأدنى
3 نيسان/أبريل [ 2003]
بيان حقائق مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية
موجز:
• ستعمل مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية مع حكومات وشعوب العالم العربي لزيادة الفرص الاقتصادية والسياسية والتعليمية للجميع.
• ستتضمن المبادرة أكثر من ألف مليون دولار من المساعدات التي تقدمها الحكومة الأمريكية للدول العربية سنويا. كما أن الولايات المتحدة تقوم حالياً بتخصيص 29 مليون دولار كتمويل مخصص لبرامج المبادرة لدعم الإصلاح وكل مجال من المجالات التي سبق ذكرها.
• إن المبادرة شراكة وسنعمل بصورة وثيقة مع حكومات العالم العربي والمانحين الآخرين والمؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية.
• سنقوم، كجزء من هذه المبادرة، بمراجعة برامج المساعدة الأمريكية الحالية في المنطقة لضمان كون مساعداتنا تصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس في جميع أنحاء المنطقة، مع تأكيد خاص على النساء والأطفال. كما أننا نريد ضمان كوننا نقدم أكثر الإعانات الممكنة تأثيراً وفعالية.
• سنستخدم التسعة والعشرين مليون دولار لإقامة برامج رائدة جديدة في كل من مجالات المبادرة التي تحظى بالأولوية. وعلاوة على ذلك، سنطور، في كل مجال من المجالات التي تحظى بالأولوية، مشاريع تهدف بشكل محدد إلى تمكين النساء وزيادة الفرص المتاحة للشباب.
• سيشغل نائب وزير الخارجية، رتشارد آرميتيج، منصب منسق المبادرة. وسيدير المبادرة مكتب شؤون الشرق الأدنى التابع لوزارة الخارجية.
• من الأمثلة على البرامج التي سنمولها ونتوقع أن نمولها في المستقبل ما يلي:
التعليم
• برنامج "شراكات في سبيل العلم" لتشاطر المعرفة مع جميع شرائح المجتمع في الشرق الأوسط عن طريق برامج مثل ورشة عمل جامعة ولاية جورجيا لقادة المنظمات غير الحكومية من المملكة العربية السعودية والكويت واليمن والإمارات العربية المتحدة العربية المتحدة.
• برامج تركز على تحسين حياة البنات والنساء من خلال التدريب على القراءة والكتابة وتقديم المنح للبقاء في المدارس.
• الجهود التي تزيد من القدرة على الوصول إلى كيانات المعرفة وتعزيز تحصيل العلم النشط، عبر التعلم عن طريق الإنترنت مثلاً، وتعليم اللغة الإنجليزية ومبادرات نشر الكتب. وسنركز بشكل خاص على وصل مزيد من المدارس والطلبة بالإنترنت.
• تطبيق برامج لتدريب المعلمين على مستوى المدارس الابتدائية والثانوية وتوسعة نطاق الروابط الجامعية للتعليم العالي.
• منح للحصول على شهادة البكالوريوس في الولايات المتحدة وفي الجامعات الأمريكية الموجودة في المنطقة، مع التركيز على التخصص في حقول كالاقتصاد والتربية والتعليم وإدارة الأعمال وتكنولوجيا المعلومات والعلوم.
الإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص
• تقديم مساعدات للدول العربية الأعضاء في منظمة التجارة الدولية لمساعدتها على الامتثال لالتزاماتها، وتقديم المساعدات التقنية بشأن معايير منظمة التجارة الدولية للبلدان التي تطمح في الانضمام إلى عضويتها.
• تمويل لمؤسسات الأعمال بإدارة من القطاع الخاص لتوفير رأس المال والمساعدة الفنية لرجال الأعمال الواعدين ولمشاريعهم التجارية. كما أننا سنضع برامج جديدة للمشاريع الصغيرة لمساعدة المشاريع التجارية والصناعية الصغيرة الجديدة.
• مِنَح وزارة التجارة الجديدة الخاصة للتدرب في مؤسسات أعمال أمريكية، وهي المنح التي ستؤمن تدريباً في شركات أمريكية وستركز أيضاً على إنشاء شبكات وفرص تدريب لسيدات الأعمال من الشرق الأوسط. • مساعدة الحكومات في جميع أنحاء المنطقة على إصلاح القطاع المالي.
• برامج لمساعدة الجهود الحالية لزيادة الشفافية ومحاربة الفساد.
تقوية المجتمع المدني
• مساعدة المنظمات غير الحكومية والأفراد المنتمين إلى جميع الفئات السياسية العاملين في سبيل الإصلاح السياسي من خلال آليات كصندوق ديمقراطية الشرق الأوسط.
• دعم إنشاء مزيد من المنظمات غير الحكومية وشركات وسائل الإعلام المستقلة، ومنظمات إجراء الاستفتاءات ومؤسسات الفكر والرأي والجمعيات التجارية--مجموعات تخلق أسس ديمقراطية نابضة بالحياة.
• برامج ستزيد شفافية الأنظمة القانونية والتنظيمية وتحسن إدارة العملية القضائية.
• التدريب للمرشحين لمناصب سياسية ولأعضاء البرلمانات وغيرهم من المسئولين المنتَخبين.
• التدريب والتبادل للصحفيين في الصحف التقليدية والصحافة الإلكترونية.
نقلا عن موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الإنترنت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق