الاثنين، 17 أكتوبر 2011

الإعلام الغربي يشن هجماته لطرد المسلمين من أوروبا؟

كوكتيل من مطاريد حكام العرب في اوروبا ؟ هم سبب الكارثة بعد 11 سبتمبر2001 وأصبح احوال المسلمين في الغرب بلا قيمة؟وانظروا إلي علماء المسلمين ونظرتهم للغرب بعد شرح وتفسير للاحداث المؤسفة هناك؟؟
تحليل ناجي هيكل
كان من حظي أن أصل إلي أوروبا بعد ساعات قليلة من انفجارات واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر 2001، وكانت أوروبا ساعتها وقبل أن تتضح الصورة، تبدو ـ للوهلة الأولي ـ وكأنها مقبلة علي حرب كونية ثالثة ولكنها هذه المرة ضد مجهول!. ولأن فصلاً جديداً من تاريخ العالم كان علي وشك البداية فضلت أن أشهد مراسم تدشينه كاملة، فطالت إقامتي متجولاً في أوروبا أربعين يوماً كاملة أرصد توابع «الزلزال» العظيم. وقبل العودة بقليل، وفي أحد المطاعم «المصرية» المنتشرة في «امستردام» تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي يعيش فيما مواطنون من كل جنسيات العالم تقريباً، اجتمعنا وصديقي المغربي الذي يحمل إحدي الجنسيات الأوروبية علي الغداء، وبعد نقاش طويل حول تأثير هذه الأحداث علي أوضاع الجاليات المسلمة في أوروبا والغرب بصفة عامة وهو الموضوع الذي طالت إقامتي من أجله، أراد صديقي أن يحمل لي رؤيته عما حدث وفداحة هذا التأثير فقال بالعامية المصرية التي يتقنها كأهلها: «الموضوع باختصار أن ما أكلته الجاليات المسلمة من أوروبا «بط بط» قبل 11 سبتمبر، ستدفعه «وز وز» بعدها»!!. وبعد ثلاثة أعوام من أحداث 11 سبتمبر ومتابعة دقيقة لوقائع ما حدث ويحدث للأقليات المسلمة في أوروبا، وزيارات سابقة ولاحقة للأحداث، لم أجد عبارة بليغة وكاشفة تلخص بعمق نتائج ما جري أفضل من عبارة الصديق المغربي، وهو ـ بالمناسبة ـ باحث وأكاديمي رفيع المستوي، لكنه ربما استوحي عبارته «العامية» من مشهد الغداء الفخم علي الرغم من أنه كان يخلو ـ تماماً ـ من الوز والبط، كليهما!!. ومثل كل شيء في العالم ـ تقريباً ـ تأثر الوجود الإسلامي في الغرب بوقائع ما جري في 11 سبتمبر وتداعياته، وكان الأثر سلبياً بما يشبه الاجماع، غير أن أسباب ذلك وحدوده ومستقبله لا يمكن معرفتها إلا بالاقتراب من «المشهد» ومعرفة أوضاع الأقليات المسلمة في أوروبا والغرب قبل لأحداث يمكن الحديث عما بعدها. أما قبل! يؤرخ بنهاية الحرب العالمية الثانية كبداية حقيقية لتكوين الجاليات المسلمة في أوروبا وامتدادها في الغرب حيث شهدت حركة إعمار أوروبا هجرة الجيل الأول من المهاجرين المسلمين إلي القارة الأوروبية التي كانت بحاجة ماسة إلي أيد عاملة رخيصة، وكانت تركيا وبلاد المغرب العربي ودول شبه القارة الهندية «باكستان وبنجلاديش والهند» هي المصدر الأول للمهاجرين المسلمين الأوائل إضافة إلي عدد قليل من الدول الأفريقية والعربية الأخري. وبشكل عام يمكن القول بأن تركيبة الجاليات المسلمة اختلت لمصلحة طوائف العمال والمزارعين والحرفيين والمهنيين وغيرهم من الذين يمثلون المصدر الأساسي للأيدي العاملة الرخيصة علي حساب الأكاديميين والمثقفين وأصحاب المستويات العلمية العليا وإن تفاوت الحال من دولة لأخري فجذبت دول مثل بريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة لاحقاً أعداداً كبيرة من الطبقات العليا المسلمة مقارنة بغيرها من الدول الغربية الأخري، وإن ظلت التركيبة مختلة وغلبت عليها الطبقات الدنيا والمتوسطة وهو ما انعكس بدوره علي وضع الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية التي تعيش بها فأدي إلي تدنيه وتواضعه ومن ثم أفقدها الكثير من الفاعلية وحجب عنها القدرة علي انتزاع حقوق ومكاسب سياسية واجتماعية تستحقها. كما تشكل التكوين الأساسي للجاليات المسلمة في الغرب وفق تقسيمات عرقية ولغوية وطائفية ومذهبية ناتجة عن الانقسامات والاختلافات التي تعيشها أوطانها الأصلية «أتراك، وعرب وبنغال وأفارقة»، «سنة وشيعة».. وهكذا، وهو ما أفقدها القدرة علي الاجتماع علي حد أدني مشترك فيما بينها وكرس لديها سياسة العزلة والانغلاق وأدي إلي تقوقعها علي نفسها فيما يشبه «الجيتو» المغلق علي أهله. و لم تكن هذه وحدها المادة الخام أو «خميرة» الجاليات المسلمة في أوروبا ـ وهي علي كل حال لا تسر ـ وإنما أضيف إليها تركيبة أو خلطة أخري غريبة زادت من الأمر سوءاً فلحق بها علي فترات متتالية وباختلاف من بلد لآخر طوائف من مطاريد الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية علي اختلافها وبكل ألوان الطيف السياسي من الليبراليين والماركسيين والقوميين والإسلاميين المغضوب عليهم والضالين في نظر حكوماتهم، ومعظم هؤلاء المطاريد إذا فتشت عنهم تجد أنهم لا معارضة ولا يحزنون وأقرب ـ في كثير من الأحوال ـ إلي المنحرفين والمنبوذين سياسياً في بلادهم من الذين احترفوا تجارة النضال وبيزنس السياسية، بل إن بعضهم أدركته السياسية «علي كبر» ولم يكن له فيها ناقة ولا جمل غير أنه لم يجد طريقاً للشهرة والحصول علي تأشيرة الدخول والإقامة في الغرب سوي اللحاق بقطار السياسة من عربة «المضطهدين سياسياً» وقد كان أبعد الناس عن السياسة لولا أوروبا وفلوس أوروبا وربما نساء أوروبا أيضاً! وإن لم يمنع ذلك من وجود معارضين حقيقيين ضاقت عليهم بلادهم بما رحبت فلم يعد لهم ملجأ ـ بعد الله ـ إلا بلاد الغرب الواسعة حيث الحرية بلا حساب أو هكذا ظنوا قبل أن تقع الواقعة في 11 سبتمبر ويحاسب كل مهاجر علي ما قدمته يداه. وإذا توغلنا أكثر في تحليل «خميرة» الجالية المسلمة في الغرب فعلينا أن نشير إلي الدبلوماسيين العرب والمسلمين الذين ابتعثتهم بلادهم «المحترمة» سفراء لها في الغرب، فالقطاع الأكبر منهم كان إرساله إلي الغرب شكلاً من أشكال التصفية السياسية أو النفي المهذب الذي اعتادت الأنظمة في بلادنا اللجوء إليه كلما اختلف الممسكون بزمام السلطة فيما بينهم، ومن ثم فقد كانت فترة بقاء هؤلاء في أوروبا والغرب عقوبة أو عكننة وشكلاً من تصفية الحسابات فذهبوا بعقدهم النفسية والسياسية ليفرغوها في مهاجري بلادهم الذين يصر القدر علي ألا تفارقهم رائحة أنظمة بلادهم حتي ولو تركوا هذه البلاد وطفشوا بحثاً عن لقمة العيش. وعلي كل كان هؤلاء أفضل بكثير من غيرهم من السفراء الذين أرسلوا لمهام تصفية خصومهم السياسيين أو كاذرع لأجهزة بلادهم الأمنية والاستخباراتية التي لم تكفها أرض بلادها فراحت توزع عملياتها وكراماتها إلي أوروبا والعالم الآخر فقضت الشطر الأكبر من قوتها وبذلت من المال والنفس في عمليات الاغتيال والخطف وتفجير السفارات والطائرات، وكان هذا مجال إنجازها الأكبر والوحيد، قبل أن ينقلب السحر علي الساحر وتدفع ثمن «نضالها» بتعويضات كلفتها المليارات من الدولارات دية للضحايا ورشوة للحكومات الغربية كما يحدث الآن مع الجماهيرية الشقيقة. أما سفراء الدول «المعتدلة» من العالم الإسلامي فكانت لهم مهام غير ذلك تناسب «اعتدال» أنظمتهم و«استنارة» حكامهم، فقد كانت سفارات هذه الدول في حالة طوارئ دائمة لاستقبال كبار الزوار والمسئولين من بلادهم الذين لا تنقطع رحلاتهم «المكوكية» للسياحة والترفيه وأحياناً للعلاج والاستشفاء، وكان السفراء «المعتدلون» يجوبون أوروبا ذهاباً وإياباً من منتزه إلي فندق إلي ناد ليلي سهراً علي أداء مهام أنظمتهم المعتدلة!. هل انتهينا من تحليل مربي خرز البقر أو خميرة الجالية المسلمة في أوروبا والغرب؟ إذن لابد أنه بإمكاننا الآن أن نجيب علي التساؤل: ما نتائج نصف قرن من الوجود العربي والإسلامي في الغرب؟. وبدون أي محاولة للتجمل أو قدر ـ ولو ضئيل ـ من المبالغة يمكن أن نقول إن النتيجة صفر وأن المسئول عنها والذي سيتحمل نتائجها هي الشعوب والحكومات وأنها في الأولي والآخرة لن تجد من يذرف من أجلها دمعة واحدة وربما لا تستحق.. ولأنه وببساطة إذا أردنا تلخيص ما حدث في نصف قرن من الوجود العربي الإسلامي في الغرب يمكن أن نقول إنه وجود الفرص الضائعة والإمكانات المهدرة. فقد حمل المهاجرون العرب والمسلمون وصدرت معهم حكوماتهم وأنظمتهم أسوأ ما في بلادهم في الوقت الذي لم يستفيدوا منه شيئاً من الفترة الذهبية في تاريخ أوروبا والغرب المعاصر، فكان الحصاد هشيماً علي كل المستويات سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. فجرثومة الانقسام والتفرق والتشرذم طاردت هذه الجاليات التي انقسمت في البلد الواحد بل والمدينة الواحدة عرقياً ولغوياً وطائفياً ومذهبياً وجيلياً حتي يظن الزائر أنه لا شيء يجمعهم سوي أنهم في الهم والتخلف عرب ومسلمون! ولا اتحدث عنها عن اختلافات وخروقات طبيعية تفرضها العادة أو الانتماء الديني والسياسي، بل عما هو أشد وأنكي، فتوقيتات الصلاة تختلف من مسجد لآخر ليس في البلد الواحد بل والمدينة الواحدة وربما صليت المغرب في مسجد بامستردام وأردت أن تصلي العشاء في مسجد آخر ـ في نفس المدينة ـ فتذهب لتجد أنهم قد جمعوا المغرب والعشاء معاً آخذاً برأي فقهي يخالف ما أخذ به أهل المسجد المجاور والذي يقع في الحي نفسه، والشيء نفسه يتكرر منذ نصف قرن في هلال رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحي حتي تجد في المدينة الواحدة من أفطر وأقام صلاة العيد ومن أتم!. وتقوم المعارك الفقهية ولا تنتهي حول بعض المسائل التي لا تهم الجالية من قريب أو بعيد وتهدر الأوقات وتطبع الكتب وتوزع النشرات حول قضايا إما قتلت بحثاً أو لا علاقة لها باهتمامات أبناء الجالية. ومن أمهات المعارك التي حضرت بعض فصولها في هولندا حكم الوضوء من ماء البئر، وحكم الأخذ بالفلك في رؤية هلال الشهر رغم أنه لا توجد آبار في هولندا وأن رؤية الهلال مستحيلة فيها معظم شهور السنة لأنها بلاد الضباب التي لا تزور الشمس سماءها إلا في مناسبات قليلة!. هذه نوعية من موضوعات الخلاف في قضايا بسيطة ولنا أن نتصور حجم وحدود الخلاف في قضايا مثل الزواج من غير المسلمين والتعامل مع البنوك التي يستحيل الاستغناء عنها أو الالتحاق بالجيش أو حتي التجنس بجنسية هذه البلاد. وأزعم أن غالبية المشايخ والدعاة الذين زاروا هذه البلاد أو استقروا فيها للدعوة إلي الله لم يفعلوا سوي بذر الفتنة والاختلافات بين عباد الله من الجاليات المسلمة فهم إما صدروا إليهم خلافاتهم الفقهية والمذهبية بل والسياسية أو شغلوهم بقضايا سطحية لا علاقة لهم بها وفي الغالب كان إثم ما يقولون أكبر من نفعه. عرفت شيخاً كبيراً من أعلام المحدثين استضافه الشباب المسلم في هولندا فمكث فيها غير قليل يفتي بحرمة التجنس بجنسية بلاد الكفر ـ يقصد هولندا طبعاً ـ وبحرمة البقاء فيها لغير ضرورة قاهرة، وقد استقر فيها ـ رحمة الله ـ فترة ليست قليلة كأنما لتطفيش المسلمين منها. أما مطاريد الجماعات الإسلامية اللاجئون في أوروبا فحدث عنهم ولا حرج خاصة إذا كان حديثك عن «أبوحمزة المصري» و«عمر بكري» وإخوانهم، فأهم ما يبحث المؤتمر السنوي لجماعة المهاجرين التي يرأسها «عمر بكري» هو وضع الأسرة المالكة حين تقوم الدولة المسلمة وتعلن الخلافة في بريطانيا وفي نهاية كل مؤتمر يتوجه الشيخ عمر برسالة إلي الملكة إليزابيث ينذرها: اسلمي تسلمي! ويشفعها بدراسة فقهية عن وضعها وأفراد أسرتها في الدولة الإسلامية وكيف أنه سيتحسن كثيراً لو بادرت بإعلان إسلامها، وفي المؤتمر الأخير ـ الذي انتهي أواخر أغسطس ـ أكدت الجماعة أن الانتماء إلي بريطانيا والتجنس بجنسيتها كفر لأنها دولة كافرة.. يقول هذا الشيخ بكري وإخوانه رغم أنه لاجيء سياسي مازال يحصل هو وأسرته علي إعانة اجتماعية شهرية لأنه عاطل عن العمل!!. ولم يكن أداء «الإخوة» المثقفين بأفضل حال من المشايخ، فرغم أنهم كانوا أكثر الفئات نعياً لتخلف المجتمعات العربية ودعوة إلي الاقتباس من الاستنارة الغربية والتأسي برموز الفكر والحضارة الغربية، إلا أنهم عند الممارسة الواقعية «طلقوا» كل تلك الإكليشهات والرطانات الثقافية، فمعظمهم كان وجوده رهناً بالطعن في تراثه العربي والإسلامي وتشويهه وتحقيره، وكثيراً ما انتقلوا إلي الطعن في الدين الإسلامي نفسه ارضاء لماكينة الإعلام الغربي، وكما كانوا في بلادهم الأصلية رفع كل فصيل ثقافي «إيريال» البث علي تردد أنظمة وحكومات علي حساب أخري وحولوا التجمعات العربية إلي فناء خلفي لمعارك «الرجعية» مع «التقدمية» و«الإسلامية» مع «العلمانية».. وأشلعوا أمهات المعارك الثقافية في أوروبا استعادوا فيها كل مفردات خطاب السقوط والعقم والتفاهة العربية، وتفرغ الجميع لتصفية خصوماته والتنفيس عن كتبه وعقده الثقافية وإطلاق رطاناته وشقشقاته التي كانت في الغالب ضجيجاً بلا طحن، وبدلاً من أن يستغل المثقف العربي المهاجر أوقات الفراغ والدعة وأجواء الحرية وإمكانات البحث قضي وقته في إشعال نيران الفتن الثقافية أو كتابة التقارير عن زملائه ومواطني بلاده خاصة المغضوب عليهم والضالين، وفي حين كان من المفترض أن يقوم هؤلاء المثقفون بتوعية الرأي العام الأوروبي والغربي واقناعه بالحقوق والقضايا الغربية والإسلامية للتأثير في صانع القرار خاصة في القضايا المصيرية والمحورية مثل قضية فلسطين، فعلوا عكس ذلك وأثاروا الرأي العام الغربي ضد كل ما هو عربي وإسلامي، فعصارة ما قدمه المثقف العربي المهاجر هو وصلات الصراخ والعويل والسباب والتشهير وتوزيع الاتهامات بالخيانة والعمالة، ولنا أن نعرف أن أهم ما شغل بال المثقفين العرب في المهجر في قضية الصراع الإسرائيلي هو نفي محارق اليهود علي يد النازي رغم أنها لا تفيد شيئاً في هذا الصراع بقدر ما أنها تثير جميع ألوان الطيف الثقافي في أوروبا التي استقر في وعيها الثقافي وقوع المحرقة وصار محمياً بجملة من القوانين والدفاعات الثقافية والسياسية التي لا طائل من التعرض لها بل ورأينا في الخطاب الثقافي العربي في المهجر من يدعو إلي المصادرة وإحراق الكتب.. وغيرها من المفردات التي يستحيل أن يقبل بها الرأي العام الأوروبي فضلاً عن أن يتسامح مع أصحابها!. وإذا أضفنا لما فعله المشايخ والمثقفون عبث الحكومات والأنظمة العربية أمكننا أن نتبين «بعض» ملامح مأساة الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، فمعظم هذه الأنظمة نظرت لهذه الجاليات وتعاملت معها باعتبارها إما فناء خلفياً لممارساتها السياسية «وليس ذراعاً سياسياً لها مثلاً» في الغرب أو في أفضل الأحوال كبقرة حلوب لابد أن تمتصها إلي أن يجف الضرع وفي كلتا الحالتين لم تنظر إلي مصلحة هذه الجاليات ولا إلي مصالحها ـ هي ـ الاستراتيجية بعيدة المدي وفضلت ـ كعادتنا دائماً ـ أن تنظر تحت أقدامها وهذه بعض مشاهد المأساة: أسست كل الدول العربية والمسلمة التي هاجر بعض أبنائها للغرب بجهاز خاص لمتابعة هؤلاء المهاجرين وكل ما يتعلق بنشاطهم الاقتصادي، انتمائهم السياسي، اتجاههم الديني... الخ، وفي أغلب الأحيان كان هذا الجهاز تابعاً لأجهزتها الأمنية والاستخباراتية ولا علاقة له تماماً بوزارات الخارجية إذ إن متابعة هؤلاء المهاجرين لم تكن من أجل سواد عيونهم أو تذليل العقبات التي قد تواجههم، حتي أن أحد هذه الأجهزة في دولة يقدر عدد مهاجريها بحوالي خمسة ملايين كان تابعاً للقصر الملكي ويشرف عليه الملك مباشرة!. وكان من مهام هذه الأجهزة ضمان ربط الجاليات المهاجرة بسياسات وتوجهات النظام الحاكم حرفياً دون النظر إلي مصالح هذه الجاليات، وعلي هذا فقد تم اختراق معظم ـ إن لم يكن كل ـ المؤسسات والهيئات التي كونتها هذه الجاليات في مهجرها وجري العبث بها بحيث يظل ولاء القائمين عليها مرتبطاً ليس ببلادهم الأصلية بل بأنظمة هذه البلاد وربما بأجهزتها الأمنية. وحتي الشأن الديني لهذه الجاليات لم تسمح هذه الأنظمة بأن يبحث ويدار وفق مصالح هذه الجاليات وظروفها، بل جري ربطه مباشرة بمصالح وتوجهات الأنظمة التي وظفت وزارات الأوقاف والهيئات الدينية بها لهذا الغرض، وعليه فلم يكن مقبولاً ـ علي سبيل المثال ـ أن يستقل مهاجرو كل بلد باجتهاد أو رأي ديني حتي في مواقيت الصيام والأعياد أو المذهب الفقهي المتبع! فكان شرط تمويل ودعم أي مركز إسلامي أو مدرسة أو جامعة إسلامية في المهجر أن يتحول القائمون عليه ومن ثم المتعاملون معه والمحتاجون إليه إلي نفس القناعات والأفكار والمذهب الفقهي والديني للدولة الممولة والتي كلما زاد تمويلها تشددت في درجة الارتباط والتماهي المطلوب معها، وعليه وجدنا في أوروبا ما عرف بالإسلام السعودي أو الخليجي والإسلام الجزائري والإسلام المغربي والإسلام المصري بحسب مصادر الدعم والتمويل. وعليه يمكن فهم ظهور وانتشار فثاوي وأفكار دينية معينة مثل تحريم المواطنة أو التجنيس، ورفض الاستقلال الديني للمهاجرين إذ إن طريق المواطنة بما يعنيه سيكون له نتائج سلبية علي أنظمة وحكومات الدول الأصلية للمهاجرين والتي ستضرر سياسياً واقتصادياً خاصة إذا علمنا أن دولة كالمملكة المغربية يقدر ثلث دخلها القومي من مهاجريها في أوروبا، كما أن دولة مثل إيران كانت تعتمد علي هؤلاء في تصدير أفكار الثورة الإيرانية إضافة إلي العائد الاقتصادي الضخم الذي يعود علي المرجعيات العظمي الشيعية منها من المهاجرين الشيعة. أما تركيا فقد مدت ذراعها الديني «رئاسة الشئون الدينية» إلي كل الدول الأوروبية التي تضم مهاجرين أتراك لضمان ارتباطهم بالنظام التركي ولعدم السماح بتغلغل التيارات الإسلامية في أوساط المهاجرين من ناحية، وضمان استمرار العوائد المالية الضخمة التي يرسلها المهاجرون للأهل في تركيا والتي حالت فترة طويلة دون الانهيار الاقتصادي الشامل. وربما لم تجتمع الأنظمة العربية والمسلمة علي شيء قدر اتفاقها علي التصدي لكل من شأنه إدماج مهاجريها في بلادهم الجديدة وفق قواعد المواطنة، وعلي هذا الخط دخلت حركات الإسلام السياسي متفقة ـ علي غير العادة ـ مع هذه الأنظمة والحكومات. بعض هذه الحركات ذات الطابع الأممي العالمي نظر إلي المواطنة باعتبارها كفراً لأنها تناقض مبدأ الانتماء إلي الأمة الإسلامية، خاصة أنه ربط المواطنة بواجبات الاندراج ضمن جيوش هذه البلاد «الكافرة» التي بالضرورة علي عداء مع البلاد الإسلامية. أما البعض الآخر فلم يكن مرد الأمر عنده عدم قدرته علي تطوير خطاب ديني في مسألة المواطنة وعدم تعارضها مع الإسلام بقدر ما كان خاضعاً لاعتبارات سياسية واقتصادية هو الآخر، فطالما تعاملت هذه الحركات مع جاليات المهجر باعتبارها ذراعها ورصيدها في صراعها مع الأنظمة الحاكمة وكذلك موردها المالي الذي ينضب لتغذية والانفاق علي تكاليف هذا الصراع إضافة إلي أنها كانت محطات استراحة أو تقاعد عدد من قياداتها الذين كادت تقصف مقصلة الأنظمة برقابهم، ومن ثم ظلت الجاليات المسلمة في المغرب المصدر الرئيسي لتمويل هذه الحركات ليس بالمال والدعم اللوجستي فقط بل وبالأفراد والكوادر المدربة والمؤهلة مالياً وعلمياً فلم يكن غريباً ـ علي سبيل المثال ـ أن التسعة عشر شاباً الذين جندهم تنظيم القاعدة لغزوة «مانهاتن» التي ضربت أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر من المقيمين في الغرب للعمل أو الدراسة. حدث هذا وأكثر وأشد منه فداحة وأخطر طوال ما يقرب من نصف قرن اعتماداً علي عالم مفتوح علي مصراعيه وقادر علي استيعاب الجميع وراغب في ذلك، وفي الوقت الذي كان الغرب يعيش أزهي عصور الليبرالية والديمقراطية والحرية وهذه هي الكارثة: أن فرصتنا الذهبية وطاقاتنا القصوي أهدرناها بدلاً من تأسيس وجود عربي وإسلامي قوي يدعم ليس فقط الحقوق والقضايا العربية والإسلامية وقت الحاجة بل ويدعم أيضاً مسيرة الحضارة الإنسانية ويكون إضافة لها وليس انتقاصاً منها. وكانت جناية ذلك أوضاعاً وظروفاً هي البؤس بعينه. تصفح سريع للأرقام والاحصاءات الخاصة بالجاليات المسلمة في أوروبا والغرب علي تفاوت من مكان لآخر لا تخرج عن النتائج الآتية: ـ الجاليات العربية والمسلمة تحتل وبجدارة أدني درجات السلم في المجتمع الغربي علي كل الأصعدة «أي الأقل درجة في كل السلالم!» فأبناؤها ـ علي تفاوت ـ هم الأقل من حيث التعليم ومعدلات الدخل والمستوي الاجتماعي وفرص الحصول علي الوظائف والسكن والصعود الاجتماعي والتمثيل السياسي والوظائف العليا. وهي الأعلي بين نزلاء السجون وجيوش البطالة وسكني الضواحي والأحياء الفقيرة ومرتكبي الجرائم وضحاياها!. أي أنهم باختصار ـ غير مخل ـ الأكثر فشلاً والأقل نجاحاً وقدرة علي التأثير حتي في القضايا التي ظنوا أنهم نذروا أنفسهم لها، وعلي رأسها القضية الفلسطينية والنموذج الأمثل علي ذلك هولندا، فاليهود الذين لا يتجاوز عددهم 25 ألف نسمة استطاعوا ضمان وقوف هولندا إلي الجانب الإسرائيلي في كل الأحوال علي الرغم من أن المجتمع والشعب الهولندي كان من أكثر الشعوب الأوروبية تهيئة لأن يقف موقفاً أكثر حيادياً إن لم يكن تعاطفاً مع الحق الفلسطيني غير أن ثلاثة أرباع المليون من المسلمين بين سكانه لم يستطيعوا اقناعه بذلك!. وإذا تحدثنا عن تجربة العرب والمسلمين للعب دور في السياسة الداخلية فضلاً عن السياسة الخارجية فنحن بإزاء واحدة من أكثر هزليات التجارب السياسية للأقليات في العالم، فقد اشتكي العرب والمسلمون كثيراً من غيابهم عن اللعبة السياسية في هولندا ومعهم حق، لكنهم حين قرروا الدخول بها أجبروا أكثر اناس تعاطفاً علي القول: ليتهم ما فعلوها!.. فقد كان أول الغيث تأسيس الحزب العربي الديمقراطي!! وليست المشكلة أن تتوقف كثيراً أمام صفة «الديمقراطي» وشكلها إذ لا تبعد الديمقراطية كثيراً في هذا الحزب عن لافتته وعنوانه فقط خاصة إذا ما عرفنا أن أصحابه مجموعة من المغامرين العرب محترفي الصفقات السياسية المضروبة كل مع نظام عربي أو أكثر، لكن ما يستحق التوقف عنده كثيراً هو أن الصفة الرئيسية للحزب هو أنه «عربي» ولم يعد يتبقي سوي أن يعلن أصحابه أن مشروعهم حال تولي السلطة هو ضم هولندا إلي اتفاقيتي السوق العربية والدفاع العربي المشترك. أما الحزب الثاني الذي أراد أصحابه تمثيل الجالية العربية والمسلمة فأسماه أصحابه «الحزب الإسلامي» والأمر لا يحتاج لتعليق!. وعلي مثل هذه الطريقة جرت وقائع وأحداث وحياة الجاليات العربية والمسلمة في الغرب إلي أن وقعت الواقعة. أما بعد: لم يخل الأمر بطبيعة الحال من لمحات ضوء وعلامات إيجابية في هذه المسيرة، خاصة في السنوات الأخيرة التي تنبه فيها بعض قيادات هذه الجاليات وبالذات التي تنتمي للجيلين الثاني والثالث الأكثر ارتباطاً بالوطن الجديد فأرادوا وضع حد لمتوالية العبث بهم التي لا تنتهي لكنها جاءت متأخرة نسبياً وربما بعد فوات الأوان حيث جاءت أحداث سبتمبر وتداعياتها لتطوي صفحة ومرحلة تاريخية مهمة في الغرب كانت وحدها بما فيها من إمكانات ومساحات حرية وحركة كفيلة بترسيخ الوجود العربي والمسلم في الغرب لو وجد من يعمل له. من زار أوروبا بعد الحدث العظيم وقارن الأوضاع بما كانت عليه في السنوات الغابرة سيدرك تماماً أن الفرصة ربما ضاعت علي من يريد العمل لوجود عربي مسلم فاعل في أوروبا والغرب فمساحة الحرية تقلصت إلي حد كبير وغلبت هواجس الأمن علي غيرها من أفكار الحرية وقبول الآخر والتعايش وغيرها، أكثر من بلد أوروبي تأسس فيه ـ ولأول مرة ـ وزارات للأمن والداخلية «بعضها خصص أجهزة للمسلمين فقط» قوي سياسية نشأت وصعدت بسرعة إلي الواجهة تعتمد في خطابها علي هاجس الأمن والخوف من العرب والمسلمين في هولندا مثلاً تأسس في خلال العامين الماضيين فقط حزب يميني عنصري معاد للمسلمين «هولندا أكثر ملاءمة للعيش» بزعامة يميني متطرف استطاع أن يقفز إلي الصدارة رغم موت زعيمه وأن يحصل علي ثاني أعلي الأصوات ويشكل الحكومة رغم أن عمره السياسي لم يتجاوز العامين. جميع الدول الأوروبية تراجعت فيها أحزاب اليسار التي كانت تدعو لاستيعاب المهاجرين وتنظيم أوضاعهم السياسية والاجتماعية وإدماجهم في المجتمع الأوروبي، واكتسحت الأحزاب اليمينية المتعصبة التي يغذيها ويقوي مشروعها رفض الوجود العربي والمسلم. المزاج السياسي والنفسي للأوروبيين أصابه تغيير جذري وعنيف أزال عنه أهم ما تمتع به في السنوات الماضية، الإيمان بالحرية والديمقراطية وحق الخصوصية، إجراءات ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين والحد من هجرة المسلمين إلي أوروبا في تزايد إلي الحد الذي أصبح علي عضو برلمان دول مسلمة أن يطلب تأشيرة الدخول إلي الاتحاد الأوروبي قبلها بأربعة عشر يوماً علي الأقل بعد أن كان يحصل عليها في نفس اليوم، وربما رفض طلبه لإجراءات وأسباب أمنية! إلي الحد الذي رفضت فيه إسبانيا منح تأشيرات للاعبي أحد المنتخبات العربية لحضور بطولة دولية مقامة علي أراضيها. جميع المؤسسات والهيئات الإسلامية صارت تحت النظر والملاحظة وأحياناً التعقب والمساءلة، في شهر واحد قضيته بعد أحداث 11 سبتمبر شاهدت إغلاق أكثر من مؤسسة إسلامية حتي المساجد نفسها وضعت تحت المراقبة وصارت كل الخطب والندوات ودروس المشايخ والدعاة تسجل للعرض علي الأجهزة الأمنية. بل إن كثيراً من العقوبات فرضت بأثر رجعي حتي إن موقع الإنترنت الخاص بمسجد التوحيد في امستردام تمت ملاحقة القائمين عليه قضائياً لنشره قبل أعوام آراء رأت الحكومة أنها تحض علي العنصرية وتعادي السامية. لقد مضي زمن الحرية وأفل عهدها وكشر الغرب عن أنيابه وصار كل شيء بحساب، حتي الكلام الذي اعتدنا أنه بلا جمرك صار عليه جمارك وعقوبات وأصبح المسلمون في الغرب وظهورهم إلي الحائط وصاروا الآن يتحدثون عن المواطنة وحقوق المواطنة إذ لم يعد أمامهم بديل أمام الريح العاتية سوي ذلك أو العودة إلي أوطانهم الأصلية إذا كانت تقبل بهم!. هذه القصص المخيفة لما يحدث للمسلمين هناك لاتبشر بخير طالما ان الاسلام اتهم بهذه الورة البشعة التي تقلق كل مسلم هنا اوهناك ؟؟فانه يجب الحرص علي سلامة المسلمين بعد ان تطاردهم اوروبا بهذا الشكل القبيح وكانهم لصوص وليسوا من المسلمين ؟؟ هذه صورة الغرب الكاره للاسلام والمسلمين؟وكفانا مهازل؟
حب الوطن أم الانتماء للإسلام..
الأقليات المسلمة في الغرب.. بين ناريين
مما يميز شريعتنا الإسلامية عن غيرها من الشرائع تلك المرونة والتجدد اللانهائي الذي تتمتع به في أغلب أحكامها التي تبتعد بالطبع عن مساحة الثوابت..
وأوضاع المسلمين في الغرب واحدة من تلك المساحات التي استطاعت الشريعة الإسلامية بمرونتها وتجددها أن تملأها وأن تفي بمتطلباتها، دون افتئات على ثوابتها، ولا تشدد يضر أكثر مما ينفع.
لكن ثمة مساحة صعبة لا بد في معالجتها من احتياط شديد لأن ما يتولد عنها من أحكام فقهية من الممكن أن يصيب ثوابت كثيرة لا بد من الحفاظ عليها.. هذه المساحة بمفهوم أشمل وبتعبير إسلامي صرف هي مساحة "الولاء والبراء".. أو بمعنى آخر هي الخيط الرفيع الذي يفصل بين الولاء للأمة المسلمة ككيان عام، وحب الوطن -أيا كان- والولاء له.. والذي أصبح مصطلحه الشائع "المواطنة"..
فهل هناك تعارض بين المعنيين، وما هي مساحات التضاد بينهما، وكيف بالانصهار كلية داخل مجتمع كهذا؟ وماذا لو أعلن غير المسلمين الحرب على بلد مسلم، وكان المسلم ضمن الجيش المغير ماذا يفعل؟
أسئلة كثيرة لا بد من الإجابة عنها حتى تتضح معالمها في أذهان كثير من المسلمين الذين أصبحوا يمثلون أقليات في بلاد كثيرة لا تدين بالإسلام.
منهجان مرفوضان
هذا ما ألمح إليه د. صلاح سلطان رئيس الجامعة الإسلامية بأمريكا سابقا حيث أوضح أن هناك منهجين للتعامل مع هذا الأمر، وكلاهما غير مقبول في ميزان الشريعة الإسلامية، أولهما: منهج يغالي في الحفاظ على الهوية الأصلية، بما يوجد نوعا من الانفصام عن الوطن الذي يعيش فيه.. ويدلل د. صلاح على وجود هؤلاء بتجربة عملية له في أماكن متعددة منها فرنسا وسويسرا وأمريكا، حيث يقول: التقيت مثلا في فرنسا بخريجي معهد العلوم الإسلامية والذين من المفترض أنهم سيكونون دعاة للإسلام هناك، وسألت أحدهم عن جنسيته فقال: أنا باكستاني، فقلت: هل ولدت في باكستان؟ فقال: بل في فرنسا، فقلت: كم مرة زرت باكستان؟ فقال ثلاث أو أربع مرات!! فقلت له: هل تستطيع أن تقول أنا مسلم فرنسي من أصل باكستاني، فقال لا!! ونفس المسألة حدثت مع مسلمين أمريكيين وسويسريين وغيرهم!
وهنا يؤكد أن هناك فجوة في تربية الأبناء وتنشئتهم في مثل هذه البلاد، حيث يشدد الآباء على الهوية الأصلية بما لا يسمح للطفل أن ينشأ على الولاء للأرض التي ولد فيها وعاش عليها.
أما المنهج الآخر كما يقول فهو على النقيض من ذلك حيث يرى الولاء الكامل للوطن حتى لو تعارض ذلك مع ثوابت أصيلة، ويدلل على ذلك بأن إحدى خطب الجمع في مدينة شيكاغو الأمريكية وكانت ضمن مؤتمر عام قد دعت إلى ضرورة تدريس الثقافة الأمريكية لأبناء المسلمين وقطع صلتهم بالثقافة الإسلامية والعربية على اعتبار أنها من مصادر الإرهاب، كذلك دعت إلى إلحاق أبناء المسلمين بالجيش الأمريكي للتدليل على ولائهم لأمريكا!!
الفهم الصحيح
وهنا يؤكد د. صلاح أن التعميم في الأحكام أمر غير مقبول، وأن مثل هذه الموضوعات لابد أن تناقش بطريقة جزئية حتى يتم إصدار أحكام صحيحة.. وبالتالي ينبه د. صلاح على أن الإقامة في مثل هذه المجتمعات الغربية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أرض، وشعب، وحكومة.
فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والمسلم يولد أو يعيش في أرض أيا كانت يجب أن يحمل ولاء لهذه الأرض، وهو ولاء المعمر لا المدمر.
أما الشعب فيؤكد د. صلاح أننا مأمورون من الله عز وجل بالتواصل مع كل الناس لنبلغهم دعوة الله، وبالتالي فالتواصل واجب.
أما الحكومات فلها إيجابيات وسلبيات، فالإيجابيات يجب دعمها، والسلبيات يجب نصحها فيها أو الإنكار عليها.. فالبدء بالنصح والانتهاء بالإنكار، شريطة ألا يتجاوز هذا الإنكار اللوائح القانونية عندهم، وربما عد البعض هذا مناقضا للولاء، لكنه -كما يراه د. صلاح- جزء من الولاء؛ لأنه ولاء إصلاحي، وليس فيه تعاون على إثم.
ثم يضيف أن المسلمين في الغرب لم يستنفذوا بعد كل الوسائل القانونية المتاحة في الدساتير الغربية -أو الأمريكي- لإنكار المنكرات الهائلة التي تقوم بها الحكومات هناك، وبالتالي إذا لم تستنفذ الوسائل القانونية لا يجوز الانتقال إلى غيرها.
وعليه يقرر أن الولاء للأرض وللشعب ولما صح من تصرفات الحكومات ودعمهم والتعاون معهم أمر واجب، لا تعارض فيه مع الولاء للأمة المسلمة، فلو كنت فرنسيا أو أمريكيا وهاجمت دولة أخرى هذا البلد الذي أعيش فيه، وجب علي أن أكون أول من يخرج للدفاع عن هذا البلد. أما إذا هاجمت بلدي بلدا آخر واعتدت عليه فلا يجوز أن أشارك، ويجب علي الإنكار، وهذا وفقا لقاعدة "الغنم بالغرم"، وهذا ما تنطق به النصوص والقواعد الأخلاقية للإسلام، إذ لا يجوز لمسلم أن يستفيد من الأرض والعلم والمال والحرية، ثم لا يدافع عن البلد الذي منحه كل هذا.
منطلق خطأ
هذا ما أكده الشيخ سالم الشيخي عضو المجلس الأوربي للإفتاء، حيث شدد على أن السؤال الذي يوجه للمسلم في البلاد الغربية عن حقيقة ولائه: هل لبلده أم للأمة المسلمة، سؤال فيه خطأ من الأساس.. ذلك لأن الولاءين لا يتعارضان مطلقا، فليس معنى أنني أنتمي لأمة الإسلام أن أعادي دولة أعيش بها أيا كانت، بالضبط كما لا يجوز أن تسأل المسيحي في فرنسا من أحب إليك المسيح.. أم البرلمان الفرنسي. ونبه الشيخ سالم على أن الموضوع له جانبان جانب ديني، وجانب سياسي قانوني، ففي الجانب الديني أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء العديد من الفتاوى التي توجب على المسلمين في الغرب الالتزام بقوانين البلاد التي يعيشون فيها ما لم تتعارض هذه القوانين مع ثوابت الإسلام.. إضافة إلى أن المسلم كذلك مطالب بكل مقتضيات المواطنة من الدفاع، والانتماء، وغيرها.. كل ذلك بالطبع في إطار الحفاظ على الثوابت الإسلامية.
أما الجانب القانوني السياسي فيتمثل في كون الدساتير الغربية تكفل للمواطنين الحق في إقامة العدل ونبذ الظلم ومعارضته، فالمواطن الغربي باستطاعته المعارضة القانونية لأي تصرف يراه منافيا للحق، عن طريق منظمات المجتمع المدني، وهناك سوابق كثيرة تؤكد هذا، منها معارضات الأمريكيين للذهاب لحرب فيتنام أو العراق، وما فعله الملاكم الشهير "محمد علي كلاي" وغيرها الكثير.
المواطنة مقدمة!!
هذه وجهة نظر أخرى أكد عليها عدد من الباحثين الفرنسيين المسلمين؛ حيث شددوا على أن مفهوم الولاء للوطن يجب أن يقدم على مفهوم الولاء للأمة بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في الغرب.. واستدلوا بجملة من النصوص التي تحث المسلمين على الاندماج في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها دون أن يفرطوا في ثوابت دينهم، رافعين شعار "أوفياء للإسلام، موالون للجمهورية".
جاء ذلك في الندوة التي نظمها "المعهد العالمي للفكر الإسلامي بباريس" مساء السبت 27-1- 2007، والتي رأى فيها طارق أبرو-عميد مسجد بوردو جنوب فرنسا - أن النقاش حول بقائهم كجاليات مسلمة في فرنسا -بين غيرهم من غير المسلمين- أو حمل حقائبهم والرحيل لأنهم في بلاد غير إسلامية انطلق منذ بدايات الثمانينيات، وخلص إلى أنهم يتناقشون في حلقة مفرغة، وأن مسألة بقائهم لا مفر منها.. بعيدا عن القمع وغياب الحريات في بلادهم الأصلية".
وأضاف "أبرو" أمام إشكالية من نوع كهذا توصلنا إلى أن مواطنتنا في البلاد الغربية يجب أن تقدم على ما عداها، وفي إطار ما اعتبره "ميثاق المواطنة"، ذهب عميد مسجد بوردو إلى القول بأنه "إذا كان هناك عدو خارجي وأراد هذا العدو أن يعتدي على يهود ومسيحي فرنسا وغيرهم من الفرنسيين، فإننا يجب علينا كمسلمين أن ندافع عن هذه البلاد بكل الطرق.. باعتبارنا مواطنين تجمعنا مع غيرنا من الفرنسيين صفة المواطنة".
من جهته أكد الدكتور أحمد العلمي -أستاذ العلوم السياسية في جامعة تولوز الفرنسية- على ضرورة تبني المسلمين لمفهوم المواطنة الفرنسية دون أن يكون ذلك متعارضا مع إسلامهم، وقال العلمي: "إن يهود فرنسا يستعملون مقولة: أوفياء لإسرائيل وموالين للجمهورية الفرنسية.. ومن جهتنا يجب أن نطلق شعارنا: أوفياء للإسلام موالون للجمهورية". وتطرق أحمد العلمي إلى الأصول النصية والتاريخية لما أسماه بمفهوم "مواطنة الأقلية" باعتبار أن المسلمين ولأول مرة في التاريخ الإسلامي يحظون في الغرب بتسمية "أقلية" وسط أغلبية غير مسلمة، وبالتالي فإن الأمر يتطلب بحسب العلمي "البحث عن توافق جديد في المفاهيم من منطلق أن الأرض كلها لله كما في قوله تعالى في سورة النساء 97" ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها".
ورأى أن هذه الهجرة في بعد منها هي "هجرة المسلمين اليوم إلى الغرب والتي تستوحى من هجرة أول وفد من الصحابة إلى بلاد الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب بعد الاضطهاد الذي لقيه أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم من البرجوازية المكاوية "نسبة إلى مكة"، بحسب تعبير المستشرق الفرنسي ماكسيم ريدونسون.
ودعم "العلمي" رأيه في ضرورة تغليب معنى الولاء "للمواطنة" على ما عداه بالاستناد إلى رأي الفقيه نجم الدين الطوفي الذي غلب المصلحة في بعض المواطن على النص، وقال العلمي: "إن مصلحة الطائفة ربما تمر قبل مصلحة النص نفسه في بعض الأحيان، مع الأخذ بعين الاعتبار لبعض الشروط والسياق الاجتماعي والتاريخي".
تحرير مفهوم الأمة
ولم يستبعد الدكتور أحمد العلمي الحاجة إلى ظهور آراء فقهية جديدة تغلب مفهوم المواطنة، عندما أشار إلى إن التجربة التاريخية الإسلامية أثبتت عند سقوط الأندلس بقاء بعض المسلمين كأقلية في الأندلس بين الغالبية المسيحية، وأن هذه الأقلية أرسلت بكتابات إلى بعض علماء إفريقية مطالبة بفتاوى تجيز لهم البقاء مع الاندماج في المجتمع الإسباني الجديد، غير أن فتاوى المغادرة والترحيل هي التي غلبت في نهاية الأمر وانتهى الأمر إلى تغليب فقه الأمة على المواطنة.
واستند العلمي أيضا إلى قول الإمام علي بن أبي طالب: "ليس بلد خير من بلد، ولكن خير البلاد من حملك"، ورأى أن ذلك يعني تغليب قيمة المواطنة.. وينتهي الباحث إلى أن المواطنة في معناها الغربي اليوم هي عبارة عن "حلف الفضول" الذي لا يفرق بين المواطنين.
من جهته، انتهى الدكتور محمد المستيري -مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي بباريس- إلى اعتبار "مفهوم الأمة لا يرتبط ببقعة جغرافية ولا بقومية ولكنه يشير إلى رابط بين العقائد"، وأوضح أن مفهوم الأمة في أحيان كثيرة ارتبط بالمعتقدين سواء أكانوا مسلمين أو نصارى أو يهود كقوله تعالى في حديثه عن غير المسلمين: "تلك أمة قد خلت من قبلكم" ويعني ذلك أن مفهوم الأمة لا يشير بالضرورة إلى الأمة الإسلامية.
أما الباحث المسلم الصوفي "أريك جوفروا" -الأستاذ في جامعة "مارك بلوخ" وجامعة ستراسبورج- فتحدث عن المعاني الصوفية للانتماء للأمة، من حيث إنه "في الحقيقة انتماء روحي، أما الانتماء الحقيقي فيجب أن يكون للمواطنة". واعتبر أن "هجرة المسلمين إلى بلاد الغرب ليست هجرة مادية وإنما هي هجرة داخلية من منطلق ما أسماه جوفروا بالمواطنة الإسلامية.. التي هي -وقبل كل شيء- انتماء إلى الأرض التي نعيش فيها، انطلاقا من الحديث النبوي "حب الوطن من الإيمان".وبالتالي يحث الباحث الغربي المسلم مسلمي فرنسا على "التخلي عن بقايا الانتماءات القومية، للانصهار في مشروع المواطنة على اعتباره مشروعا لا يتعارض مع المواطنة الإسلامية في معناها الإنساني".ومن هناتتصاعد الحاجة الى طرح نموذج اسلام اوربي ليس لقدم المسلمين وتزايدهم المطرد في هذه القارة وحسب، بل لضرورات تتصل بالقضايا الكبرى التي تهم الذكاء الانساني في هذه الأيام، فهناك دعوة جادة لتعميق الحوار بين الأديان، فعلى حد تعبير العلامة هانس كنغ في كتابه القيم "مشروع لأخلاق عالمية:
"لا سلام عالمياً بل سلام بين الاديان، ولا سلام بين الاديان بلا حوار بين الأديان، ولا حوار بين الأديان بلا دراسات جادة وأبحاث موضوعية. كما ان هناك رغبة عالمية صادقة وملحة لصياغة انسان جديد يؤمن بالتنوع الثقافي ويدعو الى الموازنة بين الروح والمادة، لمواجهة أمراض التكنولوجيا، وفي مقدمتها الغاء الهوية، وتفتيت وحدة الكيان الانساني، وتمزيق الطبيعة وتعميق الفروق الطبقية بين الناس والشعوب والأوطان".
وتتأكد هذه الحاجة مع تعالي الصيحات التي تدعو الى توكيد بل الى تأسيس ثقافة التسامح التي تتوقف بدورها على الاعتراف بثقافة الآخر، والتخلي عن كثير من المفاهيم الخطيرة والتي لا تستند الى أي مبرر علمي، مثل مفهوم المركز والأطراف، ومفهوم عقل ما قبل المنطق الذي يدّعي كثير من المفكرين الغربيين بأنه نوع من التفكير المرتبك، يتحكم بكل عقل لا ينتسب الى دائرة المجتمع الغربي، كذلك تلك الصورة الغريبة التي كونها الفيلسوف الفرنسي رينان، حيث يرى بموجبها ان العقل الشرقي لم يألف التفكير التحليلي ولم يقدر على المقارنة والموازنة، فضلاً عن تلك الصور السطحية التي تصور العرب والمسلمين مجرد طلاب لذة رخيصة، وأنهم مخلوقات متوحشة ضارية، لا تمتلك أي حسن جمالي وذوقي، أميون لا يعرفون حتى القراءة والكتابة!
ان ايجاد صيغة اسلامية أوربية حاجة ضرورية لنا نحن كمسلمين ايضاً، لأننا نريد ان نسهم في بناء أوربا الجديدة، من اجل خلق مستقبل أوربي أفضل يعمل على تسييد السلام العالمي وتحرير الشعوب من الخوف وتعميق الاحساس بالديموقراطية، اننا مواطنون أوربيون ونريد ان نعمل على خدمة الوطن انطلاقاً من مملكة الضمير الذي يؤمن بالقيم الروحية التي استلهمناها من الاسلام، وليس بوحي من منطق المادة فقط.

اننا نريد أن نبني ونخدم عبر شخصية واضحة المعالم، تحمل انتماءها الوطني والديني، فالشخصية المبهمة الغامضة الفاقدة للهوية لا تستطيع ان تقدم شيئاً رائعاً، فالمسلم في اوربا ينبغي ان يكون واضحاً، وهذا لا يتأتى من خلال الانعزال، حيث الخوف من المجتمع وقيمه ونواياه، كما انه لا يتأتى أيضاً من الذوبان الكامل، حيث تنسلخ الشخصية من هويتها الحقيقية، ففي كلا الحالتين تنتج شخصية هزيلة، لا تعطي الشيء الرائع، تعيش على هامش التاريخ، لا تحظى باحترام المجتمع، يعاملها بمنطق الشك او الاستصغار.
لقد أثبتت التجربة التاريخية الاسلامية الطويلة ان الجمع بين الثوابت الاسلامية والقيم الوطنية والقومية حقيقة ساطعة، ولقد كان هذا الدمج من أكبر عوامل استمرار التجربة، ولذا كان هناك الاسلام المشرقي والاسلام المغربي، وعليه ليس بدعاً الدعوة الى اسلام أوربي انها دعوى طبيعية وضرورية، خاصة اذا علمنا ان الثوابت الاسلامية بسيطة تتسم بالوضوح والعقلانية، هذه الثوابت لا تتعدى الأسس العقيدية من ايمان بالله والنبوة والمعاد وتلحق بها العبادات التي هي شأن شخصي، ومن ثم تأكيد المسؤولية الأخلاقية تجاه الذات والآخر، وبالأخير مجموعة قليلة من الاحوال الشخصية التي تنظم جزءاً من حياة الانسان المسلم كالزواج والطلاق والارث والارباح والملبس.
ان المسلم الاوربي لا يجد ما يمنعه من ممارسة الديموقراطية كقيمة سياسية، ومن الممكن أن يحمل لواء هذا الفكر كقيمة أخلاقية قبل كل شيء، وذلك في ضوء المعايير الاسلامية العامة التي تدعو الى المساواة، وأكثر الفقهاء يجوّزون الفائدة الربوية من البنوك الحكومية، وللمرأة حق الطلاق اذا اشترطت ذلك في العقد، والقوة قيمة رائعة شريطة انضباطها بمبدأ الرحمة، وهي لا تخلق الحق بل تحميه وتصونه من عبث الطغاة وهو ما يمكن ان نبشر به في المجتمعات البيضاء، والحرية ليست جزءاً عضوياً من التكوين الانساني بل هي حق علينا ان نناضل من اجله، ولكن من منطلق المسؤولية الاجتماعية التي من شأنها تعزيز التماسك الاجتماعي، بل اعادة هذا التماسك الى الواقع، فما لا شك ان المجتمع الابيض يعاني من نقص كبير في هذا الجانب ويمكن للعائلة المسلمة الاوربية ان تكون مثلاً حياً لهذا التماسك، وان يكون هذا الهدف من متبنياتنا كمواطنين نشعر من الأعماق بمسؤوليتنا ازاء الامة والوطن، وان لا نكتفي بالدعوة الصامتة. بل الحوار والطرح العلمي والنقاش على أعلى المستويات الأكاديمية، وليس من شك ان القيم المادية ليست مرفوضة في الدين الاسلامي، لأنها ضرورية لممارسة الحياة، والقرآن يدعو صراحة الى التزود الكامل من الحياة، ولكن بتأطيرها أخلاقياً ان الأخلاق تحول دون تأليه المادة، اننا لا ندعو الى اخلاق قمعية وانما الى اخلاق تهذب المادة وترشدها، وهي الدعوة التي يمكن ان نجد لها صدى في بعض مدارس الأخلاق المسيحية الجديدة، بل ونستطيع ان نقرأ أفكار ماكس فيبر من هذه الزاوية الحية، وقد كان المسلم يفكر وفق قواعد المذهب التجريبي حتى في القضايا الغيبية، مستفيداً في ذلك من توجيهات القرآن الملحة في دراسة الطبيعة، ولذا يمكنه ان يستلهم هذا التاريخ للانسجام مع العقلية الاوربية في هذا الاتجاه، وبهذا نحقق خطوة جبارة على صعيد التكامل، ومن منطلق حيوي خلاق، ذلك هو المنطلق الذي يتعلق بمنهج التفكير، وفي هذا الضوء سوف نركز على مبدأ التنوع في الكون وعلى أهمية الاختلاف في الرأي، والتعدد في الثقافات، سوف ننغمس في دراسة العلاقة بين الأشياء والحوادث، وكل هذا يهيىء فرصة الاندماج الفاعل، وبالتالي سنعطي شيئاً جديداً لهذا المجتمع... سنكون في الصميم وليس على الهامش.
اننا لا نريد ان نناضل من اجل مستقبلنا كمسلمين وحسب، ان من مهماتنا الرئيسية تحرير الانسان الأبيض من الخوف، الخوف منا كوافدين، وربما من حقه هذا الخوف، خاصة في الجزء الشمالي من القارة، لأن الهجرة بالنسبة اليه جديدة، وهناك جملة من التصرفات التي صدرت عن بعض المهاجرين قد أساءت، وللجو البارد اثره السلبي في زرع مبدأ الخوف من الآخر، وضعف القيم الروحية لا يساعد على مبدأ الثقة المتبادلة، من هنا يكون لزاماً علينا ان نعمل _كمسلمين أوربيين _ على رفع هذا الخوف.
ضرورة الاندماج... ولكن!
ان الاندماج الفاعل ضرورة مصيرية، ولابد ان نعمل لتحقيق أعلى درجة ممكنة من هذا الاندماج في نطاق الحفاظ على الهوية. ان سياسة العزلة تولد مزيداً من الخوف، وتجعل الطموح متدنياً وهابطاً، كما انها تكرس حالة الشك المتبادل، ومن هنا لا أرى فكرة المدرسة الاسلامية الخاصة مشروعاً ناجحاً لانه يكرس العزلة، كما ان التجمعات العرقية والدينية تساهم في توتير العلاقات بيننا، انها سياسة مغلوطة، لا تخدم المجتمع، وتساهم في توكيد مفاهيم الغربة والخوف، والدعوة الى تكوين أحزاب اسلامية يشكل استفزازاً واثارة في مجتمع قائم على مبادىء العلمانية.
ان البديل الفعال عن كل هذه المظاهر والمشاريع هو أيجاد المؤسسات الثقافية التي تعمل حقاً على صياغة الوعي الاسلامي الناضج، المؤسسات التي تربي على مبدأ التسامح العميق، وتغذي الأجيال بحب الوطن، وتمكن أبناءها من اللغة الأم، وتطلعهم على تاريخنا، خاصة في مجال الانجازات الحضارية التي كان لها الأثر الكبير على نهضة أوربا، ولكن بدون مبالغة واسفاف، مع الاشارة المركزة الى تاريخ الشعوب الاخرى، وبيان نقاط الاشراق في تاريخ هذه الشعوب، لكي نخرج بحصيلة تاريخية عالمية تساعدنا على مواجهة التحديات، وتمكننا من فهم الآخر من منظور ايجابي، مما يسمح بالتكامل الذي من شأنه صنع مجتمع حي.
ان الحفاظ على الهوية لا يتم من خلال العزلة، ان العزلة تسبب مزيداً من العقد، كما انها تقود الى التعصب، وتقتل كل فرصة للتفكير الموضوعي، ان الحفاظ على الهوية يتم من خلال الشراكة الاجتماعية، لان هذه الشراكة تتيح فرصة اكتشاف الذات، وبالتالي اكتشاف الهوية كقيمة وتعريف وتحديد، ان اكتشاف الهوية يحتاج الى الوسط المتنوع اكثر مما يحتاج الى الوسط المتجانس، من هنا نشدد على ضرورة التواصل مع الآخر، وذلك مهما كان دينه ولونه وايديولوجيته.
ان فكرة الاندماج الناضج توجب الاهتمام بالمسجد، اذ ينبغي تحويله الى مشروع ثقافي، يجب ان يكون المسجد الاسلامي في اوربا نقطة اتصال بين المسلم والمجتمع وليس بؤرة للتجمع الانهزامي، ان أكثر المساجد عبارة عن ملاجىء وليس ساحات للانفتاح على الآخر ثقافياً واجتماعياً.
ان ابرز مادة ثقافية ينبغي ان تضطلع بها المساجد في اوربا هي ثقافة التسامح، التسامح المستند الى تعاليم الاسلام وما اكثرها وما أعمقها، وليس من شك اننا لا نقصد بالتسامح هنا التهاون في تعاليم الدين، وخاصة الثوابت الكبرى، بل نعني قبول الآخر واحترام انجازاته والتنسيق معه لخدمة المثل العليا..
الذاكرة السوداء
لقد كانت هناك مواجهات غير ودية بين المسلمين والأوربيين، تبدأ بالقرن السابع الميلادي حيث خسرت أوربا الشرقية _لصالح الفتح الاسلامي _ ولايتها على مصر وسوريا وفلسطين _العزيزة على الاوربيين لاسباب معروفة _ وبعد ذلك كان القرن الثامن الميلادي، حيث بسط الاسلام وجوده في شمال افريقيا واسبانيا، ثم كانت هناك الحروب الصليبية التي استمرت طوال القرن الثاني والثالث عشر، فقد شن الاوربيون حملات متواصلة على المسلمين باسم المسيح، وتحت شعار تحرير المقدسات، فيما كانت الاسباب الحقيقية اقتصادية بحتة، وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر فتح المسلمون الاتراك القسطنطينية ومنطقة البلقان، الامر الذي ادى الى نقل الاسلام هناك، أي في قلب أوربا، وكانت المواجهة القاسية بين الطرفين في القرن التاسع عشر على اثر التوسع الاستعماري لأوربا، وما تزال المواجهة قائمة بشكل آخر. هذا التاريخ المؤسف ترك جروحاً من الصعوبة ان تندمل، وكثيراً ما تتحرك ذاكرتها في الضمائر، مما يجدد حالة الشك المتبادل، وهناك بعض الافكار الاوربية والشرقية التي تطرح هنا وهناك من شأنها تحريك الموروث التاريخي، وتكريس الموقف العدائي المستمر بين الطرفين، وذلك مثل فكرة دار الحرب ودار السلام لدى بعض الفقهاء المسلمين (وهناك رأي فقهي لا يتفق مع هذا التقسيم). ومثل فكرة نهاية التاريخ التي بشر بها المفكر الامريكي من اصل ياباني فوكوياما، وفكرة المركز الاوربي والهامش الشرقي، واخيراً ما طرحه صاموئيل هانتغتون مستشار البيت الابيض أي فكرة صراع الحضارات، وبالتحديد بين الاسلام الشرقي والمسيحية الغربية.

ان المسلمين الاوربيين مدعوون الى مواجهة نزعة الاثارة التاريخية، وبامكانهم ان يساهموا بقدر واسع من الفاعلية في نشر ثقافة جديدة في مجتمعاتهم الاوربية، تقوم على احترام الانسان في كل مكان وكل زمان، وتعتمد على تثمين الانجاز الحضاري للانسان مهما كان جنسه ومن الحقائق التي لا تقبل الشك ان الناتج الحضاري الاوربي الحالي هو حصيلة للتراث الانساني عبر العصور ولم يأت من فراغ.
لسنا وجوداً طارئاً
ان المسلمين الاوربيين مدعوون الى طرح مشاريع مشتركة مع نظرائهم في الوطن والقارة، كمواجهة الفكر العنصري، ومقاومة نزعة التطهير العرقي، ومحاربة المخدرات، والحد من سباق التسلح، ونشر مفاهيم الاسلام والتكامل، واشاعة ثقافة التسامح وغيرها من المشكلات الانسانية الاخرى، والواقع ان المسلم الاوربي اقدر من غيره على لعب مثل هذه الادوار الحساسة، لانه يحمل ثقافتين وتجربتين، وعلى صلة بأكثر من محيط جغرافي وبشري، فهو الانسان الغني بالفكر والتجربة، وهناك فرصة تاريخية في ان يتحول المسلمون الاوربيون الى جسر حضاري بين الشرق والغرب، حقاً انها فرصة تاريخية، ولكن هذا يتطلب مجموعة شروط جوهرية، منها ان لا نشعر بأننا وجود طارىء في اوربا، بل نحن وجود أصيل، لان معيار الأصالة هو العطاء وليس القدم الزمني، ولقد ساهمنا كمسلمين في بناء ألمانيا _تجربة الاتراك _ وهناك مئات من المسلمين يمارسون التعليم في جامعات امريكا وبريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا، منهم رواد في البحوث والدراسات في مجال الفضاء والفيزياء والطب والفلسفة، وقد حاز بعضهم على جائزة نوبل، وقاتل المئات من الجزائريين الى جانب قوات التحرير الفرنسية ضد الاحتلال النازي، وهذا ما نوه به جاك شيراك في حملته الانتخابية، وكثيراً ما يكون المسلمون والمهاجرون على العموم مادة انتخابية، اننا موجودون في قلب أوربا، لأننا كنا بناة حضارة رائعة انتقلت الى أوربا عبر الاندلس، ويكفي ان نشير الى شاهد يومي بسيط، ذلك ان نظام الارقام المعمول به في اوربا انما انتقل اليهم من خلال الحضارة الاسلامية، وقد أخذ شيء من الذوق الغذائي الشرقي طريقه الى المطبخ الاوربي، وكثير من الأكلات الشرقية أصبحت وجبات شعبية معروفة، وسرت بعض العادات الشرقية والاسلامية الى المجتمع الاوربي، وهنا في السويد، وفي مالمو بالذات تتميز المناطق التي يتواجد فيها المسلمون وعموم اللاجئين بالحيوية والنشاط والتنوع، ولو ان السلطات المسؤولة اهتمت بهذه المناطق وقامت بعملية تنظيم وتنسيق للنشاطات لأحدثت ثورة ثقافية في المجتمع. فينبغي للمسلم الاوربي ان يستذكر هذه الحقائق كي يشعر بوجوده الأصيل، وعليه ان يطالب بالفرصة التي تمكنه من البناء، فان خدمة الوطن من الواجبات، وهو من علائم الايمان على حد قول نبي الاسلام الانعزالية الأوربية
ان ظاهرة الجيتو خطرة ومدانة ويجب محاربتها، وللأسف الشديد بمقدار ما تجد هذه الظاهرة من دعم من قبل بعض المسلمين، تلقى هوى لدى بعض البلدان وشركات السكن، وذلك تحت ذرائع واهية، وكل هذا لا يصب في صالح المجتمع المدني، بل يخلق مجتمعاً ممزقاً، والجهات المعنية تتحمل كامل المسؤولية عن مثل هذه النتائج المؤسفة، لقد ثبت بالتجربة ان الاختلاط _ولو في حدود بسيطة _ يخلق تفاهماً مشتركاً ويولد قيماً خلاقة.
ان دعاة الانعزالية من الاوربيين يتخوفون من مشروع الاندماج، ويدعي بعضهم ان ذلك يهدد الهوية الاوربية، وهو منطق غريب جداً، اذ ليس هناك هوية أوربية واحدة كما هو معلوم، وبشكل عام يترجم هذا التخوف نوعاً من الضعف والشك في قيمة الهوية بالذات، ان بامكان الهويات الاوربية ان تستوعب الاسلام الوافد، وتطبعه بروحها كما هو الحال مع الحضارة الفارسية والهندية فكان هناك المسلم الفارسي والمسلم الهندي، ثم هناك حوار جاد يؤكد ان أزمة الهوية في اوربا قائمة، وذلك بسبب هذه التحولات التقنية المذهلة، التي لا تسمح حتى بمراجعة الذات، وفي اعتقادي ان تطعيم الهوية بخبرات اخرى قد يساهم في مواجهة هذا الخطر الجاثم، ولعل تطلع الكثير من الشباب الاوربي الى الاديان والحضارات الهندية والصينية دليل على هذه الحاجة الماسة، هذا ونحن نؤكد ان الجيل المسلم الاوربي يحمل في ضميره مبادىء الثورة الفرنسية، وهو مشغول بأهم الافكار والمشاريع التي أفرزتها حضارة الغرب، وفي مقدمتها الديموقراطية على الصعيد السياسي وقيم السوق الحرة في المجال الاقتصادي وحقوق الانسان من الناحية المدنية، وجميع هذه الافرازات لها ما يؤيدها في الاسلام مع استثناءات جزئية لا تمس الجوهر، وبهذا يمكننا ان نخلق وجوداً اسلامياً أوربياً لا يشعر بعقدة نقص، ويساهم بفاعلية في بناء أوربا الجديدة،
أوربا المتماسكة القوية، القادرة على قيادة البشرية.
ان هذا التخوف غريب وليس في محله لان هذا الاندماج يولد قيماً حضارية أغنى وأقدر على قيادة المجتمع، وكيف يتسنى لاوربا ان تقود العالم وهي حضارة ذات بعد واحد؟! انه منطق غريب، اننا لا نريد أوربا المستعمرة، أوربا الحروب الصليبية، أوربا القرن التاسع عشر، ولا أوربا القرن العشرين، بل أوربا القرن الواحد والعشرين، أوربا المتنوعة ثقافياً، ان مفهوم التنوع الثقافي اعمق من مفهوم التعدد الثقافي.
ان هذا التخوف ساذج لانه يتعامى عن كثير من الحقائق، فأجيال المهاجرين يتكلمون اللغات الاوربية بطلاقة، ومما يذكر هنا حقاً ان تفوز سويدية من اصل مصري بأفضل موضوع انشاء في كل انحاء السويد، اسم هذه المسلمة الاوربية خديجة، وهي مسلمة ملتزمة وقد سلمتها الجائزة الملكة بكل احترام وتقدير، وكان موضوعها عن الموت، وكيف يجب ان يكون واعظاً أخلاقياً لان هناك مسؤولية ما بعد الموت.
لا محل لهذا التخوف، لأننا نرى ان هذه الاجيال بدأت تتذوق الموسيقى الغربية، وتمزجها مع الموسيقى الشرقية لتخلق جديداً في هذا المجال الفني الخصب، كما اننا نرى هذه الاجيال تفضل الزواج من الاباعد وهو منحى أوربي، وفي الشريعة الاسلامية ما يؤيده، ومن الظواهر التي تبين مدى بساطة هذا التخوف ظاهرة الزواج المختلط، وقد حقق نسبة نجاح لا بأس بها، وهنا في السويد يكاد ان يكون زواج الرجل السويدي من المرأة الآسيوية ظاهرة ملموسة. ان هذا التخوف يتسم بنظرة ضيقة جداً لانه يتناسى منطق التفاعل العالمي الذي راح يشتد ويقوى بفضل ثورة الاتصالات، وللعلم ان الكثير من ساسة أوربا يرون ان الخطر الحقيقي الذي يهدد الهوية الاوربية هو الثقافة الامريكية الوافدة، وصرخة شيراك اكبر شاهد على ذلك، وفكرة الاتحاد الاوربي لا تنطلق من أسس اقتصادية في مواجهة الغول الامريكي بل من زاوية ثقافية ايضاً.


حقوق وأهداف
المسلم الاوربي مدعو الى تطوير ذاته لكي يدخل في صميم المجتمع ويساهم في بناء أوربا الجديدة، ينبغي ان يكون على مستوى رفيع من الثقافة، محيط بالفكر العالمي ومستجدات العقل البشري، ان العطل الثقافي يجرد الانسان من المعنى الحي للوجود ويحيل الحياة الى ملهاة أو صدفة فيما هي مسؤولية، ومن الضروري ان نفرق بين الهدف والحق، اذ لكل من المفهومين معناه الخاص، ان التأمين المعاشي والصحي والأمني حقوق، ولكن التفكير بانقاذ الانسان من الديكتاتورية او الجهل او نشر المثل العليا أهداف، والانسان الناجح لا يفكر في الحقوق فقط بل يجب ان تكون له اهدافه الانسانية، والمسلم الاوربي بل وكل مواطن في القارة، يجب ان يتحرك من دائرة الحقوق الى دائرة الأهداف، وللأسف الشديد اننا نفتقر الى المنهج التربوي الذي من شأنه خلق مثل هذا الشعور النبيل، وعلى امتداد هذه التصورات نرى ان من أسباب القوة الايجابية هو الوعي السياسي، أي فهم ما يدور في العالم واتخاذ موقف مشرف، ان المسلم الاوربي الوافد من العالم الثالث، وخاصة الشرق الاوسط غالباً ما يتمتع بهذا النوع من الوعي، في حين ان السياسة قيمة ثانوية في اهتمامات المجتمع الاوربي، وهو في تقديرنا خطأ، ويساهم في انعدام المسؤولية بشكل عام، ان الوعي السياسي الذي نعنيه يتجاوز سماع الأخبار ورؤية المشاهد السياسية من شاشة التلفزة، انه اعمق من ذلك بكثير، انه القدرة على اكتشاف أسباب الحدث السياسي، ومن ثم اتخاذ الموقف الذي تمليه المصلحة الانسانية، ان المجتمع البعيد عن ممارسة السياسة بوعي وعلم يتسم بالسذاجة مهما كان مستواه الاقتصادي عالياً، ان تحليل القوى التي تحرك العالم ومعرفة نظامها حاجة ضرورية للارتفاع بالانسان الى مستوى فاعل في صميم التاريخ، ان تنفير الناس من العمل السياسي مقصود في كثير من الاحيان، والهدف هو احتكار قيادة المجتمع، في حين ان لكل عضو في هذا المجتمع حقاً في تقرير مصير المجتمع بالذات، وليس من شك اننا كمسلمين سوف لا تكون لنا القدرة على تحريك المجتمع الذي ننتمي اليه، وسوف لا نحس بالقوة والكرامة اذا لم نكن قوة منتجة، فلابد ان نعمل، لابد ان نسعى لتحصيل كل الاسباب التي تجعلنا عاملين، وذلك من تحصيل أكاديمي وخبرات مهنية، وأنا أعلم ان هناك من يرغب وربما يخطط لابقاء المسلم والمهاجر بشكل عام عاطلاً، ففي هذا ابقاء لكل دواعي الاحتقار التي يبديها البعض تجاه المهاجرين، ومن هنا ينبغي ان ندخل في معركة دائمة في سبيل رفع هذا الحيف، اننا كمسلمين نشعر بان العمل قيمة حضارية، بل هو مصدر لكثير من القيم العظيمة، فالحب والاخلاص والعطاء من ايحاءات العمل، ونحن نريد ان نعمل كي نحافظ على أصالتنا لان البطالة تسلخ الانسان من كل انتماء ولأن المجتمع الذي تستشري به البطالة يستشري فيه النفاق، وفي الوقت ذاته نرفض ومن خلال الفكر والحقائق اجبارنا بشكل وآخر على الأعمال ذات المستوى المتدني، اننا نريد العمل الذي يتناسب وامكاناتنا، فهذا هو منطق الديموقراطية التي نعتبرها تراثاً اوربياً بالأساس، وهذا هو منطق المجتمع الحي. ولا اغالي اذا قلت ان من أهم مشاكلنا نحن المسلمين الاوربيين هو البطالة، ونحن نعاني من هذه المشكلة، لان البطالة في الخطاب الاسلامي مرفوضة وتعدّ علامة تخلف، وهي متضادة مع هدف الخلق، فالانسان وجد كي يعمر الكون، كما أننا نعاني من هذه المشكلة لأنها تسبب لنا احراجاً اجتماعياً، كما ان البطالة تضاعف من المشاكل الاجتماعية بل هي من عواملها الرئيسية، ان توفير العمل للمسلمين وكل المهاجرين يوفر فرص التكامل الاجتماعي، فرابطة العمل تتيح المجال لاكتشاف الآخر، وسوف يخلص المسلم الاوربي في عمله ويقدم نموذجاً متقدماً على الاخلاص، لانه يشعر بالرقابة الداخلية التي تجبره على اتقان المهمة، وفي الحقيقة ان الجهات المعنية في غفلة عن هذه الحقيقة الرائعة، ان المسلم الاوربي يشعر بمسؤولية مركبة، مسؤولية تجاه الوطن والامة والانسان، ومنبع هذه المسؤولية ليس رقابة خارجية، حيث تتبخر هذه المسؤولية بمجرد غياب هذه الرقابة، ان منبع هذه المسؤولية هو الضمير المستمد من الايمان بالله، ومن هنا نعتقد جازمين ان المسلم الاوربي عنصر أمان وعطاء، ولكن اذا أهمل هذا الانسان ومورس في حقه الظلم، فقد يسيىء استخدام هذه القوة، فيخسر المجتمع ثروة هائلة، ان العمل هو العنصر الاساسي للكسب في الخطاب الاسلامي، وهو المبرر الجوهري للوجود، ان المسلم الاوربي لا يتعامل بفرح مع المعونة الاجتماعية، لأنها مجانية، ولعل هذا الواقع المأساوي من أهم أسباب شعوره بالاستلاب، انه مستلب ليس لانه لا يتحكم بما ينتج، بل هو مستلب لانه لا ينتج أصلاً، فيشعر بالوجود الهامشي، ان أصعب لحظة في تاريخ هذا الانسان هي اللحظة التي يستجدي بها المعونة الاجتماعية، لأن تقاليده الدينية لا تحبذ له الأخذ المجاني، والجهات المعنية مسؤولة عن هذا الاحباط الذي يعاني منه المسلم الاوربي، لأنها لم تهيىء له فرصة العيش الكريم، انه يريد ان يعيش بجهده وليس على مائدة المعونة الاجتماعية.

ان المهمة الرئيسية للمسلم الاوربي هو التكيف مع المجتمع الحاضن، مع الاحتفاظ بمعالم الانتماء الاسلامي العامة كدين وحضارة وتاريخ، ومن ثم الاسهام الفاعل في بناء أوربا الجديدة، أوربا التي ينبغي ان تقود العالم نحو الديمقراطية والحرية المسؤولة والعدالة الاجتماعية، الاسهام في تحرير الانسان من خطر البعد الواحد، وسيكون من الهراء ان نفكر في تحويل الآخرين الى الاسلام او نفكر بتأسيس الحكومة الاسلامية، ان هذه الأوهام تقود الى مجتمع العنف والكراهية.
أبعاد الاسلامية الاوربية
الاسلام الاوربي يوفر الممكنات التربوية القادرة على تمرين العقل على التفكير في العلاقات بين الأشياء، وينطلق من كون أي شيء انما هو عبارة عن شبكة من العلاقات هذا من ممارسات العقلية الاوربية، وكتاب المسلمين (القرآن) يوجه الفكر الى العلاقة بين الموجودات، ومن ثم يكون هناك تأكيد التنوع الكوني والبشري والثقافي والحضاري، على ان تكون النظرة الى هذا التنوع قائمة على الاحترام، وليس من مهمات العقل الاسلامي الاوربي التفتيش عن طبيعة الأشياء، بل تكون مهمته التعامل مع خصائص الأشياء، ومراجعة بسيطة للقرآن تقودنا الى هذا النوع من التفكير، ان العقل في الثقافة الاسلامية الاوربية ليس جهازاً عضوياً بل هو وظيفة، وهو مجموعة المعارف والعلوم التي نكسبها بالبحث والدراسة فيما يخص الكون والحياة والانسان، ونحن نعرف جيداً ان العقلية الناقدة ساهمت مساهمة كبيرة في بناء الحضارة الغربية المعاصرة، والصيغة الاسلامية الاوربية يجب ان تتسلح بالنقد، تماماً كما هو العقل الاسلامي في القرون الأربعة الاولى من ظهور الدين الاسلامي، ان النقد في مفهوم الاسلام الاوربي لا يعني الكشف عن الايجابيات والسلبيات، فهذا هو المفهوم الساذج للنقد، وكثيراً ما يختلط بالقيم الايديولوجية، انما النقد في مفهوم المسلم الاوربي اضاءة الفكر والاضافة اليه، توسيع مدى المادة والقضية المنقودة، ومن علامات وخصائص العقلية الاسلامية الاوربية القراءة الاحتمالية للنص ولكن مع الايمان بمبدأ الترجيح، ان التفسير المؤجل للنص ينفي الانسان ويخلق فوضى فكرية.

ان الاسلامية الاوربية تؤمن ان التغيير من اهم ميزات الكون والحياة والتاريخ، ولكن في نطاق من القوانين الثابتة ولو في حدود نسبية، ان الماركسية نفسها تنطوي على القول بوجود ثوابت، رغم انها فلسفة الحركة والتغيير والتطور، وكل فلسفة تنطلق من ثابت معين مهما ادعت الثورة المطلقة على الثابت.

اننا كمسلمين أوربيين نؤمن بقدرة العقل الخلاقة، ولكن نرفض المبدأ الذي يقول: لنبدع كل ما نقدر عليه، فان هذا المبدأ يعرّض البشرية للفناء وهو يتناقض مع انسانية الانسان، اننا نقول: لنبدع كل ما هو في صالح الانسان، في صالح الحياة، في صالح الوجود، ونحن ننطلق في كل هذه التصورات من ايماننا بالله والدين والاخلاق.

المسلم الاوربي يؤمن بان الدين في خدمة الانسان وان الاخلاق ليست محتوى وانما هي اطار، والاخلاق يمكن ان تدرك عقلياً وتجريبياً، وان الخبرة البشرية برهنت على اصالة الاخلاق، ولكن المسلم الاوربي لا يتجاوب مع الاخلاق الخاملة، فالتسامح لا يتناقض مع الاصرار على الحقوق، والصبر لا يتناقض مع مكافحة الظلم.

ان أهم القيم التي يؤمن بها الانسان الاوربي هي الحرية والمساواة والديموقراطية والطموح والنجاح الذي يقاس بمقدار الدخل الفردي والاتجاه التجريبي في العلم ودقة المواعيد والفردية، ونحن كمسلمين أوربيين نؤمن بكل هذه القيم ولكن مع اضافة، نحن نتطلع الى الفردية ولكن التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع، نعشق الديموقراطية، ولكن نتصورها مسؤولية أخلاقية قبل ان تكون حقاً فردياً، وعلينا ان نناضل من اجلها عالمياً وليس قارياً فقط، ونؤمن بالحافز المادي ولكن لابد من ضمير داخلي يدعونا الى اتقان العمل، والطموح جزء لا يتجزأ من الذات الفاعلة في منطق القرآن، ولكن ليس الطموح الذي من شأنه تدمير البشر بل الطموح الذي يحقق الذات ويحقق المجتمع في الوقت نفسه، ونهدف الى الرفاهية ولكن نرفض الاسراف والترف المبالغ فيه، والوفاء بالوعد واجب لانه يضبط مسيرة المجتمع ويعود عليه بالنفع ولكن في نفس الوقت، لان الوعد عهد الهي، ونعتمد التجربة ولكن نعتقد ان هناك مبادىء معرفية سابقة على التجربة، ومن اهمها بديهيات الاحتمال ومبدأ الذاتية الفلسفية.

ان المسلم الاوربي بهذه الصيغ والمعادلات يوجد ضابطاً يحول دون انهيار أوربا، ينقذها من أزمتها الروحية، ينقلها الى قلب الشرق كرسالة انسانية.
قضية الاصولية
الاصولية حالة مرضية تنكر الواقع وتتعامل مع الاوهام،لأنها لا تعترف بالآخر وتدعي امتلاك الحقيقة كلها وترى الجماعة الاصولية انها الوحيدة التي تمتلك الصفاء الروحي والوجداني، وانها الوحيدة المسؤولة عن انقاذ العالم، ومن هنا يحتل الانقياد اللا مشروط لقائد معين من احدى النتائج التي تترتب على مثل هذه التصورات، وتتسم الجماعات الاصولية بالقسوة الشديدة وقد تتخذ من الحذف والالغاء عقيدة لتطهير العالم حسب منطوقها، حيث تتعامل مع كل شيء بمقياس الأسود والأبيض ومن الغريب حقاً ان تنتشر الاصولية في هذا الوقت الذي يوصف بأنه عصر العقلانية والحداثة، وليس في المناطق المحرومة من العالم وحسب بل في الغرب أيضاً، وربما هناك نماذج من التفكير الاصولي في الغرب أشد مما هو في الشرق، وليس من شك ان تقسيم العالم الى مركز وأطراف مهما كان أساس التقسيم هو لون من الاصولية، كذلك اتخاذ بعض المجتمعات مادة لاكتشاف قوانين التخلف يصب في هذا الاتجاه، لا توجد اصولية من نوع واحد، فهناك اصوليون مسلمون ويهود ومسيحيون وشيوعيون ورأسماليون وقوميون ووطنيون وبوذيون وكنفوشيون.
أوربا مقبلة على تنوع عرقي وديني وطائفي وقومي وايديولوجي، هذا التنوع شديد وثري، وقد تشهد أوربا بسبب هذا التنوع موجات من الاصولية التي تهدد تماسك المجتمع، واعتقد من الصعب القول ان هذا التنوع في طريقه الى الذوبان في الحالة العامة للمجتمع، فان للانتماء الحضاري والديني والثقافي جذوره العميقة في الضمير الانساني، وليس من شك ان التفاعل الحي بين مفردات هذا التنوع يخلق أوربا الجديدة القادرة على الصمود، وقد تتحول بموجبه الى رسالة للبشر، بل ان هذا التفاعل قد ينقذ أوربا من المصير الذي توقعه لها اشبنجلر، وقد يوفر لها الحل الذي اقترحه المؤرخ البريطاني المشهور ارنولد توينبي، ذلك الحل الذي يقوم على فكرة المزاوجة بين الأخلاق والتكنولوجيا.
لا توجد حضارة او ثقافة تمتلك البرهان المطلق، ان العلوم الطبيعية بالذات تخلت عن ادعاء اليقين واتخذت من الاحتمال منهجاً للتعامل مع النتائج التي تتوصل اليها، فكيف بالمفاهيم والتصورات العقائدية والثقافية؟
ان كل حضارة تنطوي على انجاز عظيم، ومن الممكن خلق انجاز مركب من العطاءات الرائعة للبشر على مختلف انتماءاتهم الحضارية، لقد استطاعت البروتستانتية ان تبدل الايمان من علاقة بين الانسان والكنيسة الى علاقة رأسية بين الله والانسان، والكاثولوكية كانت وما زالت مصدر إلهام للثوار، ولاهوت التحرير في امريكا الجنوبية من الشواهد الحية على ذلك، والاسلام نقل العلم من اسلوب التأمل الذهني الى رحاب التجربة والكنفوشية أنقذت الانسان من الوهم ودمجته في صميم الواقع، والبوذية ركزت على نقاء الضمير، وهكذا مع كل حضارة وثقافة ودين.
أوربا المستقبل ينبغي ان تقوم على مبدأ التنوع الثقافي، وعلى الانظمة السياسية ان تدفع بهذا الاتجاه لتخلق أوربا الممتدة حضارياً وثقافياً، ولابد من توفير الآليات التي من شأنها تحقيق هذا الهدف العظيم، هذه الانظمة مدعوة الى تشجيع الجمعيات التي تنتمي الى الثقافات المتعددة، وتلزمها فكرياً على التعارف والتمازج، بل اعتقد ان هذه الأنظمة ينبغي ان تحاسب هذه الجمعيات على ما تقدمه الى ابنائها من ثقافة تقوم على التسامح وقبول الآخر.. ومن اجل تحقيق هذا الهدف الكبير، على الجهات المسؤولة ان تعرّف المجتمع بالانجازات المشرقة لكل حضارة، وليس من شك ان المشاريع الفنية والعلمية المشتركة تخلق فرصاً رائعة للتعارف والتثاقف. ان الالتقاء والتفاعل بين هذه الاديان والحضارات والثقافات على ارض اوربا سيخلق قيماً جديدة تفوق في تأثيرها القيم الاستهلاكية، وسوف تضع بين أيدينا نحن المسلمين الاوربيين امكانات التفاهم مع العالم عبر الفكر والمعاني وليس عبر القوة والسلعة، وهذه اللغة ابلغ في التأثير من لغة الرصاصة والبورصة. ان هذا التنوع الثقافي والحضاري الذي تنتظره أوربا يمكن ان يجعل من هذه القارة المعجزة نواة مركزة لتمثيل العالم كله، وهذا بطبيعة الحال يؤدي الى قيام اوربا القائدة والرائدة.
المرأة !
قد يتساءل البعض عن دور المرأة في الصيغة الاسلامية الاوربية، ومبعث هذا التساؤل في كثير من الاحيان الصورة المغلوطة لدى البعض عن موقع وحقوق المرأة في الاسلام، هذه الصورة الناتجة من الخلط المقصود أحياناً بين التقاليد والاسلام، في حين ان مراجعة سريعة للشريعة الاسلامية تكشف عن منظومة رائعة من الحقوق، وكثيراً ما يصاب الباحثون بالدهشة عندما نطرح بين أيديهم هذه الحقائق، فمن حق المرأة ان تستقل بحياتها الاقتصادية والفكرية والسياسية، وهي المسؤولة عن اختيار شريك حياتها، ولا يجب عليها في الدين الاسلامي ان تقوم بالواجبات البيتية من طبخ وكنس وتنظيف، الا تطوعاً منها، ولا يجوز للرجل اجبارها على الانجاب، كما لا يجوز للرجل ان يحرمها من هذا الحق اذا رغبت به، ويحق للمرأة ان تشترط قبل عقد الزواج ان يكون الطلاق بيدها وليس بيد الرجل، وقد شرع الاسلام الطلاق باتفاق الزوجين، وهو الصيغة التي سوف تسود الثقافة الاسلامية خاصة في اوربا نظراً لشيوع هذا النوع من الطلاق في القارة، ولانه أقرب الصيغ الى العقل والمنطق، وهذه من الامثلة التي تكشف عن امكانية التثاقف بين الاسلام واوربا، واذا أساء الرجل معاملتها فللقاضي حق تطليقها منه، وكل ذلك لان العقد المبرم بين الزوج والزوجة هو عقد زواج قائم على المعاملة بالمعروف والاحسان، وليس هو عقد عمل او اجارة او توظيف، وضمان الحب والمودة مدرج في صيغة العقد بشكل وآخر، وللعلم ان الرجل هو المسؤول أساساً عن نفقتها ونفقة الابناء ولكن الاسلام يشجع على الشراكة في المسؤولية، لان في ذلك ضماناً لتماسك العائلة ثم تماسك المجتمع، نعم الاسلام يوجب الحشمة لا اكثر ولا اقل. خاصة في ظروف الاختلاط، ومن الأمور التي نريد ان نشير اليها هنا ان هذا الدين لا يمنع الاختلاط الذي تحترم فيه العلاقات، وقد كان المجتمع الاسلامي حركة فاعلة قوامها الرجل والمرأة، لم تكن المرأة حبيسة البيت أبداً، تمارس الوظيفة المدنية، وتشترك في المسابقات العلمية والأدبية، والمرأة المسلمة تستعيد اليوم هذا الدور الرائد، فهي عضو في البرلمان وتقود المظاهرات الاحتجاجية وعميدة جامعة وناشطة سياسية وكاتبة ومفكرة، ومن الملاحظ انها متواجدة بفاعلية في قطاع التعليم والطب، وأخيراً لابد أن نوضح ان قانون تعدد الزوجات قانون استثنائي في الشريعة الاسلامية، فضلاً عن ان شروطه في الشريعة تعجيزية، والمسلم الاوربي من كلا الجنسين لا يتفاعل مع هذا اللون من الزواج، انطلاقاً من قراءة واعية لتعاليم الاسلام من جهة والثقافة الاوربية من جهة أخرى، كما ان المسلم الاوربي ينكر ويرفض ويستهجن الفوضى الجنسية، باسم الحرية ويدعو الى قيم الحب السامية، فالجسد قيمة كونية وليس كرة طائرة أو قدم.

النقطة المهمة في حقوق المرأة في الاسلام هو أن هناك بعض الخلافات بين الاتجاهات الاسلامية في هذا الخصوص، وهذا يصب في صالح أي محاولة لايجاد صيغة اسلامية أوربية، لان القائمين على هذه المحاولة يمكنهم اختيار الحقوق التي تنسجم مع متطلبات الاندماج في المجتمع، وهي عملية يسيرة لان سجل حقوق المرأة في هذا الدين متنوعة ومتجددة وثرية وثوابتها محسوبة، وهذا يفسح المجال الواسع لانتزاع صيغة اسلامية أوربية للمرأة المسلمة، فهذه المرأة غير ملزمة بالاتجاهات التي تمنع النساء من المشاركة السياسية ما دام بعض علماء الاسلام يطالب المرأة بالذات، يطالبون المرأة ان تساهم بفاعلية في العمل السياسي، ويعدون ذلك من علائم رشد المرأة ونضجها.
المرأة المسلمة في اوربا اكثر جرأة واقداماً وطموحاً، وهي متواجدة منذ زمن في اوربا، تحضر النشاطات الأدبية والفنية، وتحتل الكثير من المقاعد الدراسية، وليس من شك ان هناك بعض العراقيل التي يضعها بعض الآباء والأمهات أمام تطلعات الأبناء، وفي مقدمتها الاندماج في المجتمع، وذلك انطلاقاً من تقديرات يختلط فيها الجهل مع الخوف، وهي محاولات ساذجة، لان هؤلاء الآباء والأمهات لا يعرفون ان التيار الحضاري قاهر ولا يمكن كسره، فيما يمكن التفاعل معه مع الحفاظ على الثوابت، ولكن هذه العراقيل في طريقها الى التقلص وربما الى الزوال في المستقبل القريب أو البعيد.
المرأة المسلمة في اوربا يمكنها ان تساهم في خلق المجتمع الاوربي المتوازن، وذلك من خلال ما يزرع الاسلام في ضميرها من اخلاص وحب لبيتها وزوجها وابنائها، مما يساهم في استقرار الاسرة وتجانس المجتمع، وهما من الحاجات الملحة لاوربا الحاضر والمستقبل، ويمكنها ان تعطي نموذجاً متقدماً يجسد مبدأ الوسطية والاعتدال في كل شيء، والمرأة المسلمة بحكم تعاليم دينها والظروف التي مرت بها معروفة بعدم انسياقها مع قيم الاسراف والتبذير، الأمر الذي ينعكس بآثار ايجابية على الاسرة ومن ثم المجتمع، اقتصادياً وبيئياً واجتماعياً، وليس من شك ان ثقافة الوسطية ضرورة أوربية لما سببته نزعة الاستهلاك من تبديد في الدخول الاقتصادية وما قادت اليه من مشاكل عائلية وبيئية خطيرة.
المرأة المسلمة في اوربا تدرك جيداً ان الزواج مسؤولية كبيرة، ولذلك أخذت ترفض الزواج المبكر، ولم تعد تؤمن بالاسرة الكبيرة، ليس انطلاقاً من تقديرات اقتصادية وحسب، بل انطلاقاً من تقديرات تربوية، فالانجاب ليس حاجة غريزية فقط، وانما اضافة الى ذلك حاجة مرتبطة ببناء الحياة والمجتمع، ثم هي مسؤولية أمام الله.
ان الجهات المسؤولة في أجهزة التربية والاعلام في اوربا مدعوة الى تصحيح المعلومات الخاطئة التي يحملها الكثير من الاوربيين عن قضية المرأة في الاسلام، تلك المعلومات المستقاة من التقاليد أو من السوّاح العابرين او من الكتب الدعائية، وذلك حتى نتقدم خطوات على طريق التكامل والاندماج.

تجارب لا نريدها
ان المسلم الاوربي لا يريد ان يكرر تجربة روكننتان سارتر حيث لا يكتشف وجوده الا من خلال وحدته، اننا نريد ان نكتشف وجودنا من خلال العمل الخلاق، فالكون من حولنا لا يثير التقزز والملل، ولا نتفاعل مع الوجود الذي ينبثق بلا سبب، ونحن قادرون على التفاعل مع هذا العالم، نفهمه ونستثمره ونحافظ عليه ونقدمه للأجيال القادمة بأمانة، وبهذا سوف لا يكون التاريخ مجرد أيام تتكرر، بل كل لحظة هي تاريخ جديد، نحن كمسلمين أوربيين لا نريد أن نتأمل وجوهنا في المرآة وانما نريد ان نتأمل أرواحنا في العطاء، فمن تعاليم ديننا ان الانجاز الجيد هوية.
لا نريد ان نقدم تعريفاً عن أنفسنا، بل نريد ان نعرف غيرنا لا لنحطمه وانما كي نتلاحم معه، عندما تُفتقد الرغبة الطيبة في معرفة الآخر، نكون قد منحنا الآلة فرصة قتل الكلمة فنموت جميعاً.
ان المسلم الاوربي لا يريد ان يبقى رهين كودو، حيث تكون حياته دليلاً على عدم الفعل، ينتظر تحت شجرة ذابلة شيئاً مجهولاً حتى الموت، لا كلام... لا حدث... لان وجوده ليس صدفة، وهجرته ليست عبثاً، وانما من اجل اكتشاف الحياة في جو الحرية، وكثيراً ما يكون هناك هروب الى الحرية والجدية.
المسلم الاوربي لا يؤمن باختزال الانسان الى بعد واحد ذلك هو الجسد، بل هو روح وعقل وجسم وعواطف، ومن هنا ضرورة العلم والأدب والاخلاق والمادة والقيم في اطار واحد متفاعل من شأنه ايجاد الفرد المتوازن ثم المجتمع المتكامل.
ان المسلم الاوربي سوف لا ينسى تاريخه، ولكن سيقرأه ليضيف شيئاً الى وطنه الجديد، ولا يتخلى عن دينه، ولكن سينتقي من هذا الانتماء ما ينفع الانسان وينسجم مع التاريخ الجديد، وليس في ثوابته ما يتناقض مع التطور أو أي انجاز بشري فيه صالح للحياة، منحاز الى اوربا التي ترفع شعار تحرير الانسان والأوطان، ويحرص على تعلم لغة الأجداد كاضافة ثقافية وحضارية توسع تجربته في الحياة، يناضل عالمياً من اجل العدالة والسلام والديموقراطية، ولا تسمح له قيمه الدينية ولا الكثير من القيم الانسانية التي تلقاها في اوربا ان يكون وسيلة لاضطهاد الآخر.
ان المسلم الاوربي لا يرى النجاح بالتنكر لديه، اذ ليس في هذا الدين ما يعيق حرية الانسان، وليس من علائم النجاح التنكر للجذور، خاصة وهناك دعوة عالمية تركز على العودة الى الجذور، ولكن من منطلق التكامل الحضاري، وليس من منطق التفوق العنصري الذي اصبح ثقافة بالية. ان الدعوة الى الذوبان شكل من أشكال العنصرية المقيتة، فضلاً عن كونها تحرم الآخر من التزود بتجارب الآخرين.
المسلم الاوربي لا يؤمن بذلك المنطق الثنائي الغريب الذي يقول اما الذوبان او المواجهة، لان الاسلام _كما يقول مكسيم رودنسون _ يحمل قدرة هائلة على التكيف.
المسلم الاوربي سوف يحارب على جبهتين، الجبهة التي تدعو الى الانعزال والجبهة التي تدعو الى الذوبان، وهذا يستوجب ثقافة راقية، كما يفرض على الجهات المسؤولة ان تقدم العون الكافي لمثل هذه المشاريع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق