السبت، 29 أكتوبر 2011

تقرير الشرق الاوسط الجديدرقم 1 ؟؟؟؟؟

نعم إنها لحظات حاسمة؛ فلم يعد هناك بُد من مواجهة الواقع الذي تفرضه والتعامل معه.. ولم يعد هناك مزيد من الوقت يمكن إهداره أو إتلافه في جدل عقيم.
إننا أمام مشروع متكامل يستهدف الهيمنة الأمريكية والغربية على أمتنا، وليس من الحكمة أن نواجه مشروع الهيمنة بمشاريع تم إعادة إنتاجها في وقت نملك فيه بين أيدينا ميراثا حضاريا هائلا، يحمل في طياته وتكويناته مبررات بقائه واستمراره؛ بامتلاكه آلية التجديد والاجتهاد التي تتيح للأجيال المتعاقبة أن تعيش في ظلال حضارتها وميراث نبيها صلى الله عليه وسلم في انسجام كامل وتكيف عجيب مع الواقع المتغير.
إن مشروع الهيمنة الأجنبية الذي يحمل في هذه المرحلة اسم "الشرق الأوسط الكبير" ما هو إلا حلقة من سلسلة ممتدة عبر قرون طويلة، حاولت -وما زالت تحاول- فيها قوى الاستعمار أن تبسط سيطرتها على أمتنا، مستفيدة من الواقع المتخلف الذي تمر به الأمة على كافة المستويات. وإزاء هذه الحلقة الجديدة من المسلسل المستمر تتعرض الشعوب المسلمة لحملات التشكيك واليأس المخطط؛ فما إن تتعرض الأمة لمحنة أو تواجه هجمة؛ حتى يتحمس جمهور المسلمين للنصرة والنجدة، ويرفع الجميع سقف توقعاتهم، حتى إن البعض ربما تصور أن تخرج الأمة من الأزمة وقد تغلبت على جميع أعدائها، وتخلصت من كافة مشاكلها، وعادت بعافية القرون الأولى تنشر الدين، وترفع راية التوحيد؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
ولكن ما إن تمر الأيام حتى يجد المسلمون أنفسهم أمام واقع جديد ومتغيرات مختلفة، وربما أمام سلسلة من الهزائم التي تشيب لها الولدان، وتكون النتيجة أن يسارع جمع غفير من أبناء الأمة ليرجعوا من حيث أتوا وقد انكسرت نفوسهم وخارت عزائمهم، وليعودوا إلى ذواتهم لا يلوون على نصرة، ولا يتحمسون لنجدة، بل ويستسلم كل منهم لليأس والإحباط، لا يأمل في إصلاح، ولا يسعى إلى بناء.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تسرب هذا الإحساس إلى نفر غير قليل من أبناء الأمة؟ ولماذا وجد البعض ضالته في حلول ربما تكون أقرب للخيال منها إلى الواقع، وأقرب للاستسلام منها إلى الجدية في المواجهة، وأقرب إلى التواكل منها إلى التوكل، وأقرب لاعتماد الخرافة منها إلى اعتماد الإيمان واليقين بالله تعالى، وأقرب إلى الحلول الجاهزة والسطحية منها إلى الحلول الجذرية الشاملة؟ إننا أمام واقع متشابك ومتداخل ربما يتبدى للبعض صعوبة حله، ولكن بنظرة دقيقة فاحصة تستحضر سنن الله في خلقه، وتستحضر منهجه الذي ارتضاه لعباده الصالحين.. ندرك أن الحل ممكن، ولكن بعد اكتشاف الخلل وبذل الطاقة والوسع في البناء وتصحيح المسار.
ربما يظن البعض أن حركة الكون وحدها هي التي تسير بحسبان {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}، {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ}، ولكن أيضا قوانين قيام الحضارات وسقوطها من سنن الله الغلابة وقوانينه المَهيبة التي لا تتخلف، ولا تجامل أحدا؛ حتى وإن كان في عداد المؤمنين الصالحين، وإن جاملت لكان أولى بها أن تجامل المصطفى والمجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي انتفض عندما بلغته مقولة قوم: إن الشمس خسفت لموت ابنه إبراهيم؛ ليتعالى على أحزانه التي تقاطرت على قلبه الشريف؛ ليقول: "الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله.. فإذا رأيتموهما فصلوا".
وليقرر بديهة لا يعتليها شك ولا يتطرق إليها ريب.. أن لله سننا وقوانين لا تتخلف، ولو حدث لاختل ميزان الكون، ونحن إذ نعيش اليوم زمنا تتوارى فيه أمتنا عن سدة القيادة، ويخفت إشعاعها الذي أضاء حقبا وأزمانا بحاجة لأن ندرك أن شمس حضارتنا الإسلامية لن تبزغ من جديد دون تضحيات هائلة وجهاد شامل ومتواصل { سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً}
إننا بحاجة إلى:
فهم دقيق لواقعنا الذي نمر به وإدراك راشد لطبيعة الطريق وعزيمة ماضية لإعادة البناء وقلوب موصولة بالله لضمان التأييد
قراءة أولية في وثيقة الشرق أوسطية ماذا نحن فاعلون ؟
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وقبل أن تفيق أمتنا من النكبة الثالثة التي تعرضت لها خلال عقود متقاربة؛ بداية بنكبة 48 ومرورا بنكبة 67 وانتهاء بنكبة 2003.. خرجت علينا الولايات المتحدة الأمريكية بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"؛ لتدشن به للنكبة الرابعة الكبرى التي تستهدف إفراغ المنطقة من انتماءاتها وثقافتها؛ لتكون أحد مكونات النظام العالمي الجديد.
ونضع بين يدي هذا المشروع عددا من الملاحظات والوقفات الهامة، ومن ذلك:
- تستهدف فكرة المشروع مواجهة التحديات التي تخرج من منطقة الشرق الأوسط، ومن أبرزها المد الإسلامي المتنامي، حتى بات من المتيقن لدى كافة المحللين والمتابعين أن الظاهرة الإسلامية هي الأقوى والأكثر انتشارًا في العالم العربي والإسلامي، وأن الضغوط التي تمارَس لصالح المشروع الغربي، أو على الأقل لتسكين المشروع الإسلامي، والحد من انتشاره ونموه.. باتت غير ذات أثر؛ وهو ما عناه تحديدًا نص المشروع بقوله: "إن منطقة الشرق الأوسط الكبير تمثل تحديًا للمجتمع الدولي".
- تمثل المنطقة العربية والإسلامية خزانة كبيرة للثروات التي لا يفوت الولايات المتحدة الاستفادة منها، والهيمنة عليها؛ وهو ما أكدته الوثيقة من أن "الشرق الأوسط الكبير يمثل فرصة فريدة للمجتمع الدولي".
- اعتمد المشروع على حقائق ووقائع لا يجادل فيها أحد؛ مثل تدني الدخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ22، وارتفاع نسبة الأمية، وارتفاع نسبة البطالة، وتدني مستويات المعيشة.. إلا أنه غض الطرف عن أسباب التخلف في كافة هذه المجالات، ولم يصرح بأن هذه الأمراض وغيرها التي تعاني منها أمتنا إنما هي إفراز للديكتاتوريات التي زرعتها الولايات المتحدة في المنطقة، وتعهدتها بالري والسقيا حتى كانت حصيلتها كوارث ماحقة أدت إلى التخلف الكارثي الذي تعاني منه الأمة.
وليس أدل على ذلك التورط من الوثيقة التي أفرجت عنها الولايات المتحدة مؤخرًا بشأن العلاقات الأمريكية العراقية أيام حكم الديكتاتور العراقي السابق "صدام حسين"؛ فتورد الوثيقة السرية* نص تقرير صادر من السفارة الأمريكية ببغداد إلى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "ألكسندر هيج" في نوفمبر عام 1983 حول استخدام العراق للأسلحة الكيماوية؛ إذ يُثبت التقرير أن العراق يمتلك الأسلحة الكيماوية، ويستخدمها بصورة شبه يومية، إلا أن كاتب التقرير اعتبر أن الموقف الحرج للعراق في حربه مع إيران يبرر الإشارة السريعة للأمر أثناء المحادثات التي يتم إجراؤها مع العراق بشأن صفقة سلاح جديدة من الولايات المتحدة.
- في إطار الحديث عن الديمقراطية والحرية تشير الإدارة الأمريكية في وثيقتها إلى أن [[إسرائيل|الكيان الصهيوني]] هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير الذي صُنف -وفقًا لتقرير "فريدوم هاوس" للعام 2003- بأنه "حر"؛ وهو ما يؤكد الدور القيادي الذي يتم تهيئة الكيان الإسرائيلي له في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يدل أيضا على أن الولايات المتحدة تجاوزت بمراحل فكرةَ التطبيع مع إسرائيل إلى فكرة قيادتها لقاطرة المنطقة الجديدة.
- يكتسب الاهتمام بوسائل الإعلام أهمية بالغة في خطة الشرق الأوسط الجديد، وهو ما أدركه الحس الوطني خلال الفترة الأخيرة؛ بداية من ظهور مطبوعات تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية أعباء تكوينها وتأسيسها، ناهيك عن ظهور محطة "الحرة" ومجلة "هاي" الشبابية، إلا أن الوثيقة التي أصدرتها الولايات المتحدة بشأن إعادة هيكلة المنطقة في الفترة القادمة أرادت أن تؤكد أيضا على الاهتمام البالغ باستهداف استقطاب المزيد من الإعلاميين والصحفيين للمساهمة في تكريس الهيمنة الأمريكية، والتعامل بها بسياسة الأمر الواقع، واعتبار رفضها أو محاولة تجاوزها ضربا من الوهم، هو أقرب للخيال منه إلى واقع الحياة.
وقد ظهر هذا الأمر في الوثيقة التي أشارت إلى ضرورة عمل زيارات متبادلة للصحفيين في وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية، ورعاية برامج تدريب للصحفيين، وتقديم زمالات دراسية للطلاب كي يداوموا في مدارس للصحافة في المنطقة أو خارج البلاد، على أن تمول برامج لإيفاد صحفيين أو أساتذة صحافة لتنظيم ندوات تدريب.
- تشير الوثيقة إلى الرغبة الأمريكية الكبيرة في تكريس أحادية التدفق الإعلامي والثقافي والفكري من الغرب إلى الشرق الأوسط الجديد، ورغم وجود عقبات كبيرة أمام الولايات المتحدة في هذا الصدد نتيجة قلة بضاعتها في المجال الثقافي والفكري فإنها تطرح هذا الأمر في سياق تعاون أمريكي أوربي.
- تهتم الوثيقة بالتركيز على المجال التعليمي ومناهج التعليم؛ وهو ما طرحت له الوثيقة آلية عملية للتنفيذ السريع والعاجل والمتمثل في تعديل وتغيير مناهج التعليم في العالم العربي والإسلامي بما يتواءم مع الصورة الجدية للمنطقة.
هذه ملاحظات رئيسية على مجمل الخطة الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط الجديد. وإن الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث في الجذور والأبعاد ومحاولات الخروج من الأزمة التي تتشابك فيها الرغبة الأمريكية في الهيمنة على أمتنا العربية والإسلامية، وبين واقع أمتنا المتخلف والمتردي.
الاستعمار.. في ثوبه الجديد
مرت الأمة الإسلامية منذ نشأتها الأولى بمراحل وفترات قوة جعلتها قادرة على قيادة العالم ثقافيا وفكريا، واستطاعت خلال قرون طويلة أن ترسخ لدى شعوب العالم قيم العدل والحرية الحقيقية. وخلال هذه الحقب تمكنت من بناء جسور من الحب مع شعوب العالم التي عاش غالبها في ظل الدولة الإسلامية، سواء آمنت بعقيدتها واتبعت نبيها -صلى الله عليه وسلم- أم احتفظت بما آمنت به.
وقد دفعت هذه القوة إلى تراجع أطماع الأمم الأخرى، والاكتفاء في الغالب الأعم بالدفاع أو حسن الجوار أو تجميد العداء إلى وقت مناسب، إلا أنه منذ تراجع قوة الأمة سياسيا وعسكريا بالفُرقة والتناحر الداخلي، وعلميا بالجمود الفكري والابتعاد عن المنابع الصافية للكتاب والسنة.. منذ ذلك الحين بدأت أطماع الأمم الأخرى تطل برأسها، وبدأت ملامح العداء تعود من جديد؛ فتعرضت إلى موجات من الاستعمار والغزو الخارجي التي فتَّت في عضدها، وساهمت في تكريس تخلفها.
ولعل من أبرز تلك الموجات:
موجة الاحتلال الأولى التي اصطلح عليها المسلمون آنذاك بـ"حروب الفرنجة"، واصطلح عليها الغرب بـ"الحروب الصليبية ".
موجة الاحتلال المغولي وهي لم تبشر بمشروع حضاري أو فكري أو عقائدي ولكنها كانت حملة عدوانية بربرية استهدفت إضعاف قوة الأمة الإسلامية باعتبارها القوة الكبرى في العالم آنذاك.
موجة الاستعمار الحديث وقد امتدت من القرن التاسع عشر الميلادي، وأنهت معها القرن العشرين، واستمرت حتى بدايات القرن الواحد والعشرين، ومن أبرز ما يميز هذه الموجة أنها:
- ممتدة في الزمن لمدة تزيد عن مائتي عام دون انقطاع.
- تحمل رؤية ثقافية وفكرية تسعى إلى فرضها على شعوب المنطقة العربية والإسلامية.
- تمتد أشكال وصور الهيمنة فيها إلى كافة المجالات.. ليست العسكرية فحسب، ولكن الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية والعلمية.
- العمل على الاستفادة إلى أقصى درجة من الثروات الاقتصادية الطبيعية التي تزخر بها المنطقة.
- السعي للحيلولة دون وجود تنمية حقيقية ومستقلة عن الدائرة الاستعمارية.
- محاولة إضعاف حركات التحرر الوطني الإسلامي التي تسعى لإحداث عمليات تنمية اقتصادية وفكرية وثقافية وعقائدية بمعزل عن الدوائر الاستعمارية.
- التخطيط لإحداث نوع من الإحباط واليأس لدى الأمة وقواها الفاعلة من القدرة على تحقيق تنمية بعيدة عن السياق الاستعماري.
- استهداف صناعة نخب سياسية واقتصادية وثقافية ترتبط مصالحها بدوائر الاستعمار. وإذا كانت هذه أبرز ما يميز الحقبة الاستعمارية الحديثة والمعاصرة؛ فإن السؤال الذي يطرح نفسه سريعًا هو:
ما المقصود بامتداد المرحلة أو الحقبة الاستعمارية الحديثة من أوائل القرن التاسع عشر الميلادي وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين؟ وهل يعني التسليم بهذه المقولة أن نراجع مفاهيم الاستقلال الوطني ومرحلة بناء الدولة الوطنية التي مرت بها بلادنا في المنطقة العربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ؟
وما نطرحه ردًا على هذا السؤال المشروع أن الحقبة الاستعمارية الحديثة والمعاصرة مرت بعدد من المراحل، واختارت عددًا من النماذج التي تباين بعضها حينًا واتفق أحيانًا، إلا أنها في كل الأحوال لم تخرج عن التوصيف العام للحالة بأنها حالة استعمارية من الدرجة الأولى.
فهناك عدد من النماذج الاستعمارية التي تباينت بصورة أو أخرى لكنها اتفقت في المجمل العام، وقد ظهر كل نموذج منها في مرحلة تاريخية معينة خلال هذه الحقبة الاستعمارية الممتدة، ومن أبرز هذه النماذج:
(1) النموذج الاستعماري البريطاني: وينسب هنا النموذج لبريطانيا؛ لأنها أبرز الدول الاستعمارية التي مارسته بصورة واضحة، وتميز بالتالي:
- سيطرة عسكرية مركزية على البلدان المستعمرة من خلال قواعد إستراتيجية؛ فهي لا تعتمد السيطرة العسكرية الشاملة، وإن كانت تلجأ إلى الاستعمار الشامل والتواجد العسكري واسع النطاق في البداية، ولكنها في مرحلة تالية تقلص تواجدها العسكري من خلال قواعد إستراتيجية تسمح لها بحماية مصالحها والتدخل المباشر عند الضرورة.
- امتصاص ثروات الشعوب ، وإحداث نوع من التبعية الاقتصادية، والتمحور حول اقتصاد الدولة المستعمرة.
- تشكيل وتكوين النخب الثقافية والفكرية المتمحورة حول ثقافة الدولة المستعمرة؛ وهو ما يعني مزيدًا من الاهتمام بالتعليم الخاص والأجنبي الذي يركز على ثقافة المستعمر، ويضعف بصورة واضحة الثقافة المحلية.
- إضعاف مراكز الإشعاع الثقافي الوطني التي تسعى إلى بعث الثقافة الإسلامية الوطنية والتيئيس من قدرتها على إحداث نوع من التنمية الحقيقية.
- خلق إدراك ثقافي وتربوي لدى الأجيال بأن التنمية الحقيقية لا تؤتي ثمارها إلا من خلال التمحور حول ثقافة المستعمر.
- السماح بحرية تشكيل الأحزاب وإصدار الصحف بشرط ضمان وجود أحزاب ونخب ثقافية وسياسية تدور في فلك الاستعمار وقادرة في الوقت نفسه على منافسة فلول الأحزاب والنخب الثقافية والسياسية الوطنية.
(2) النموذج الاستعماري الأمريكي: وينسب هذا النموذج للولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها تعد -بلا منازع- صاحبة هذا النموذج الذي ظهر على أرض الواقع عقب الحرب العالمية الثانية مقترنًا بالتفوق الأمريكي، وتسلم دفة الأمور بعد خفوت نجم بريطانيا وفرنسا كدولتين استعماريتين.
وقد تميز هذا النموذج بالتالي:
- الرغبة في عدم خوض معارك عسكرية مباشرة وعدم تأكيد الصفة الاستعمارية، وحال الضرورة يمكن أن تشن حروبًا بالوكالة؛ مثال:
عدوان 1967 .
احتلال لبنان
الحرب العراقية الإيرانية .
حركات التمرد في الجنوب السوداني.
- تركيز الاهتمام على النخب السياسية بصورة أكبر من النخب الثقافية، ودفع هذه النخب بعد صياغتها وفقًا للمواصفات الأمريكية إلى سدة الحكم والتأثير، أو التعامل مع النخب السياسية المرشحة لأدوار محورية في بلدانها، والتي قد تصل إلى الحكم من خلال تفاعلات داخلية محضة، وفقًا لدراسة دقيقة للمسارات النفسية والاجتماعية والثقافية لهذه النخب.
- تحقيق أقصى استفادة ممكنة من النخب السياسية الحاكمة في البلدان العربية والإسلامية، وإضفاء الشرعية على وجودها وبقائها في سدة الحكم، حتى وإن افتقدت هذه النخب الشرعية لدى عموم شعوبها.
- غض الطرف عن الممارسات القمعية للأنظمة الديكتاتورية ما دامت مدركة للخطوط الحمراء، وما كانت مبتعدة عن المساس أو التفكير في المساس بالمصالح الأمريكية المباشرة.
- السير حثيثًا في اتجاه تشجيع الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي على إضعاف الثقافة الإسلامية بصورة تدريجية حثيثة وفاعلة على المدى البعيد؛ وذلك من خلال اعتماد سياسة تجفيف منابع الثقافة الإسلامية.
- إذكاء روح الإقليمية والقُطرية بين البلدان العربية والإسلامية، والتعامل مع مفردات المنظومة العربية في سياق غير مترابط يمكن الولايات المتحدة من التعامل مع كل مفردة أو دولة كحالة خاصة.
(3) عودة إلى النموذج البريطاني المعدل: ويبدو أن الولايات المتحدة فضلت نموذجها الذي دشنت له مع فراغها من ضرب "هيروشيما وناجازاكي" في الحرب العالمية الثانية ، واستمرت في تفضيلها حتى نهاية القرن العشرين، ولكنها مع بداية القرن الجديد حرصت على البحث عن نموذج جديد، بعد أن رأت أن هناك بعض المثالب في النموذج الذي فضلته عقب الحرب العالمية الثانية ..
ومن الواضح أن هناك أسبابًا عدة كانت وراء هذه المراجعة التي تمخض عنها التطلع إلى نموذج جديد، ربما يكون هو نفسه النموذج البريطاني القديم بحذافيره، وربما أدخلت عليه الولايات المتحدة بعضًا من التفاصيل والفروقات، وربما تدشن لنموذج جديد يختلف بالكلية عن النماذج المذكورة. ومن بين الأسباب التي نرى أنها كانت وراء الرغبة الأمريكية في إعادة النظر في النموذج الأمريكي القديم.. فشل الأنظمة العربية التي عول عليها النموذج الأمريكي الكثير في تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية على الوجه الأمثل، وربما من أبرز ملامح هذا الفشل:
- عدم القدرة على تحقيق الأمن الكامل للكيان الصهيوني، وقد بدا هذا واضحًا في عجز الأنظمة العربية في إبرام اتفاقيات سلام حقيقية وفاعلة مع الكيان الإسرائيلي تتسم بصفة الشعبية والجماهيرية.
- عدم قدرة الأنظمة العربية على إقناع شعوبها بضرورة ووجوب قبول الكيان الإسرائيلي في المنطقة.. ليس فقط من خلال اتفاقيات وتعايش سلمي، ولكن من خلال إعادة هيكلة المنطقة في صورتها الجديدة التي تقود قاطرتها دولة الكيان الإسرائيلي.
- تفوق المشروع الثقافي الإسلامي على المشروع العلماني على المستوى الشعبي بصورة واضحة رغم عمليات الإجهاض المستمرة على كافة المستويات من قبل الأنظمة الحاكمة، ورغم التغاضي الهائل عن الانتهاكات الشاسعة والواسعة لحقوق الإنسان من جانب الولايات المتحدة.
ورغم هذه الانتهاكات من جانب الأنظمة والتغاضي من الجانب الآخر؛ فإن التفوق الشعبي للمشروع الإسلامي أصبح لافتًا للنظر ومتعاظمًا على الاحتواء.
- ازدياد الهواجس لدى الولايات المتحدة من عدم القدرة على الحفاظ على الثروات البترولية العربية الهائلة بما تشكله من احتياطات كبيرة.
- بروز بعض المطامع الشخصية لدى بعض الأنظمة العربية، ومن أبرزها أطماع النظام العراقي السابق في الاستيلاء على الكويت .
- عجز الأنظمة العربية عن القضاء على البيئة التي ينمو فيها فكر العنف المسلح رغم نجاح بعض الأنظمة العربية في كبح جماح هذه الجماعات ذات المرجعيات الإسلامية؛ الأمر الذي وصل إلى خروج الأمر عن السيطرة لتتطور الأحداث وتصل إلى قمتها مع أحداث 11 سبتمبر 2001 م.
هذه بعض الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى أن تفكر بصورة جدية في تغيير النموذج الاستعماري الأمريكي الذي تبنته منذ الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر القرن العشرين لتدشن لنموذج جديد ربما يشكل عودة إلى النموذج البريطاني القديم، وربما يكون تطويرًا له.
آليات الهيمنة
كلما ازدادت وطأة الهيمنة الأمريكية على المنطقة زاد اللغط والحديث عن طبيعة هذه الهيمنة، وهل هي حرب صليبية جديدة ذات طبيعة دينية أم أنها هجمة استعمارية؟ وهل هي معركة محدودة لا تجاوز حدود فلسطين وبغداد مضافًا إليهما ما أسمته الولايات المتحدة محور الشر؟ أم أنها مرشحة للامتداد لأقطار المنطقة كلها؟ بل إن الجدل بدأ يتسع بصورة كبرى ليتيح الفرصة لمزيد من التساؤلات، ويطرح مزيدًا من القضايا، من أبرزها ما يلفت الأنظار إلى وجود معركة داخلية متوازية مع معركة الخارج تتمثل في منظومة: التخلف والديكتاتورية والجهل.
وحتى نجيب على هذه التساؤلات أو نطرح رؤيتنا حولها يمكن أن نصنفها إلى عدد من المحاور:
[1] استعمارية أم دينية؟
[2] فكرية ثقافية أم عسكرية؟
[3] داخلية أم خارجية؟
[4] محلية أم دولية؟

[1] استعمارية أم دينية؟
كثيرًا ما يطرح البعض هذا السؤال، ويضع له على طريقة الامتحانات الأمريكية اختيارين (استعمارية - دينية).. ويبدو أن الإجابة تحتاج إلى شيء من التحرر من الطريقة الأمريكية؛ وهو ما يستدعي نوعًا من التفكيك لمصطلح الحرب الدينية أو الصليبية وعلاقته بطبيعة المواجهات الدائرة والمتوقعة في المنطقة، إننا نستطيع أن نفهم طبيعة المعركة مع تحديدنا لمقصدنا من الحرب الصليبية أو الدينية: - فإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الولايات المتحدة تسعى إلى نشر العقيدة المسيحية لتحل بدلا من العقيدة الإسلامية؛ فإننا نقول: إن هذه الحرب ليست صليبية بهذا المعنى؛ فالولايات المتحدة لا تسعى بحال إلى نشر المسيحية، ولا يندرج هذا في خططها الحالية أو المستقبلية.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية بأن هناك دوافعَ دينية لدى مساحة متزايدة في الإدارة الأمريكية تستدعي مفاهيمَ دينية وأحقادًا تاريخية ضد الإسلام والمسلمين؛ فهي فعلا بهذا المعنى حرب دينية، وهو ما تعلنه الإدارة الأمريكية بصورة واضحة دون لبس ولا مواربة.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن هناك مواجهة شاملة بين مسيحيي العالم بكافة فصائلهم وعقائدهم ومذاهبهم ضد جميع المسلمين على اختلاف دولهم وأوطانهم.. فالواقع خلاف ذلك؛ فهناك فصائل مسيحية ومذاهب وطوائف مسيحية ترفض معارك الهيمنة الأمريكية، بل وتقف أمامها حجر عثرة، وتشكل معارضة قوية لأهدافها.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الإدارة الأمريكية تعتمد خطابًا دينيًا لتحفيز جنودها الذين يفتقدون ما يدفعهم إلى التضحية بأرواحهم وأنفسهم في أتون هذه المعارك.. فأعتقد أن هذا أمر صحيح، وهو ماثل من خلال وقائع قوية تؤكده.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الإدارة الأمريكية ترفض عقيدة التوحيد، وتسعى لخلخلتها عن واقع المجتمعات الإسلامية؛ فهذا أمر يخالف الواقع ولا يرتبط به.
- إذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الإدارة الأمريكية تدرك خطورة العقيدة الإسلامية التي تدفع أصحابها إلى عبادة الله وحده والانصياع له وحده دون غيره، سواء كان صنمًا أو بشرًا أو حضارة، وأنها تدفع أصحابها إلى العزة ورفض الذل أو الخنوع والخضوع.. فهذا قول له وجاهة كبيرة، ويقدم تفسيرًا للمخاوف التي تتملك الغرب من المسلمين؛ إذ يدركون أن الإسلام يحمل طاقة ذاتية دافعة إلى العزة ترفض الاحتلال والخنوع.
- وإذا كنا نقصد بالحرب الصليبية أن الإدارة الأمريكية ترفض بعضًا من معطيات الشريعة الإسلامية خاصة تلك المساحات التي تحمل تميزًا عن الحضارة الغربية، وتتعارض مع بعض معطياتها؛ فهذا أيضًا يقدم تفسيرًا للرفض الأمريكي لبعض ملامح الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات. - وإذا كنا نقصد بالحرب الدينية أن هناك عددا من جماعات التبشير تسعى لاستغلال التفوق الأمريكي والغربي وضعف البنية الاقتصادية لدى دول عربية وإسلامية للنفاذ إلى الأمة، ومحاولة صدها عن دينها فهو أمر له شواهد من الواقع.
وفي مجمل الكلام عن هذه القضية نجد أنفسنا إزاء معركة حقيقية تستهدف الهيمنة الاستعمارية على بلادنا العربية والإسلامية وامتصاص ثرواتها وتحقيق أقصى فائدة ممكنة من إمكاناتها ومقدراتها. وهي معركة تلعب العقائد فيها دورًا لا يمكن إغفاله من خلال:
- قناعات فكرية لدى طائفة وجدت لها مكانًا في مقدمة المعركة داخل الإدارة الأمريكية.
- حافز معنوي لمعارك استعمارية تستهدف تحقيق استفادة لقطاعات رأسمالية داخل المجتمع الأمريكي، وتفتقد إلى الشرعية الدولية والأسس الأخلاقية؛ لذا يطفو على السطح الحافز الديني ليملأ فراغًا.
- مخاوف من طبيعة العقيدة الإسلامية التي ترفض الخنوع، وتفهم عبادة الله على أنها تتنافى مع عبادة وطاعة مَن سواه.
- خلاف فكري مع معطيات الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات.
- رفض الشعوب الإسلامية لهيمنة أي دولة غير إسلامية؛ إدراكًا منها أن الهيمنة الاستعمارية تنطوي على تراجع ثقافة وعقائد البلاد الواقعة تحت الاحتلال أو الاستعمار لحساب ثقافة المستعمر، وهي معادلة طبيعية ومنطقية.
- معركة استعمارية تستهدف الحفاظ على السيطرة الأمريكية على العالم بعد الفراغ من كتلة رئيسية تملك من المقومات العقائدية الثقافية ما يدفعها إلى رفض الهيمنة والاستعمار.

[2] فكرية ثقافية أم عسكرية؟
قد لا نجد أنفسنا حائرين إذا أردنا أن نثبت الشق العسكري في المعركة.. فقد ظهرت فصولها جلية واضحة في العراق، وما زالت فصولها مستمرة في فلسطين، أضف إلى ذلك أيضا تلك القواعد العسكرية التي يصرح المسئولون في الإدارة الأمريكية ببقائها واستمرارها وتوسيعها لتشمل العراق الجديد بالإضافة إلى دول الخليج.
ولكن هل تقتصر المعركة على الشق العسكري أم أن هناك أبعادًا أخرى تتعلق بالمجال الثقافي والفكري؟ ولا شك أن البعد العسكري يتم استعماله أحيانًا لتحقيق الأهداف والوصول إلى نتائج سريعة، إلا أن استعماله في غالب الأحوال يظل في إطار الردع والإرهاب، على أن يتم إفساح مجال واسع للدور الثقافي والفكري ليقوم بمهامه على نطاق واسع في جميع بلدان المنطقة، ولا شك أن هذا الدور سيتفاعل سريعًا تحت وطأة الإرهاب العسكري وقوة الردع القابعة في أكثر من بلد عربي، خاصة أن ما خلفته من دمار وخراب ماثل للأعين.
وإذا أردنا أن نرصد محاولات التغيير والتأثير ذات الطابع الثقافي القيمي فلا نستطيع أن نقف عند حدود العقود الأخيرة؛ فالجهود في هذا المجال مستمرة، وتم تناوبها بداية من التدخل الفرنسي في المنطقة أواخر القرن الثامن عشر، ومرورًا بالسيطرة البريطانية في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، ونهاية بالدور الأمريكي الذي بدا واضحًا في النصف الثاني من القرن العشرين من خلال الأمم المتحدة .
ورغم هذا الدور المتتابع فإن العقود الأخيرة شهدت تصعيدًا واسعًا في مجال التدخل والتأثير الثقافي والقيمي، وقد بدا ذلك واضحًا في مؤتمرات: نيروبي 1985 ، ومؤتمر الطفل في نيويورك عام 1990 ، ومؤتمر البيئة والتنمية في ريودي جانير عام 1992 ، ومؤتمر حقوق الإنسان في فيينا عام 1993 ، ومؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة عام 1994 ، ومؤتمر التنمية الاجتماعية في كوبنهاجن عام 1995 . وقد ساهمت هذه المؤتمرات مجتمعة في المطالبة بحصول الشواذ على حقوقهم، وإعادة تعريف تقسيم الأدوار الاجتماعية على أساس نوعي (جندر)، بالإضافة للحقوق الجنسية وحق الإجهاض.. وهو ما يعني التعارض التام والكامل مع القيم الأساسية والثقافية في العالم العربي والإسلامي التي تعتبر الأسرة هي الشكل الوحيد الذي ينظم العلاقة بين الرجل والمرأة، وأن أي ممارسات جنسية تتم في غير إطار العلاقة الزوجية تعد غير مشروعة ومرفوضة اجتماعيًا ودينيًا.
ولا شك أن مناهج التعليم ستشهد نوعًا من التغير الواضح والبين في اتجاه ترشيح المفاهيم الجديدة عن الأسرة والعلاقة بين الجنسين، بالإضافة إلى ممارسة الإرهاب الفكري تارة، وربما يصل الأمر إلى الإرهاب العسكري أو الاقتصادي والسياسي بدعوى مخالفة مواثيق الأمم المتحدة ، تلك المواثيق التي تنتهكها الولايات المتحدة بجدارة، ولكنها لا تتنازل عن تسليم دول العالم الثالث المطلق لها. وقد بدأت بالفعل عمليات الإرهاب ضد عدد من دول العالم، من ذلك:
في فبراير 1999 اتهمت لجنة وثيقة [Cedaw] الحكومة الكولومبية بالتمييز ضد النساء لرفضها منحهن حق الإجهاض، كما نصحت اللجنة نفسها حكومة ميزفيزستان بإعادة تعريف السحاق باعتباره توجهًا جنسيًا وإلغاء العقوبات على ممارسته.
وليس من المستبعد أن تسعى الولايات المتحدة خلال المرحلة القادمة إلى توجيه ضربات عسكرية أو على الأقل التهديد بها للدول التي ترفض الانصياع لقرارات الأمم المتحدة أو الرغبة الأمريكية المتعلقة بالشأن الثقافي والقيمي، وليس فقط ما يتعلق بالديمقراطية أو أسلحة الدمار الشامل.

[3] داخلية أم خارجية؟
رغم كافة التحديات والمخاطر التي ظهرت وما زالت مرشحة للظهور على الصعيد الخارجي متمثلة في عمليات الاحتلال العسكري السافر أو التهديد بالقوة العسكرية أو الضغوط المتزايدة لإعادة هيكلة الأمة اجتماعيًا وثقافيًا وتعليميًا.. فإننا قد نتجاوز الإدراك الصحيح لمعطيات الواقع إذا سلمنا بأن الأخطار الخارجية هي وحدها التي تهدد كيان الأمة العربية والإسلامية.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى ما قبل القرنين الأخيرين اللذين شهدا سطوة غربية استعمارية على العالم العربي والإسلامي؛ لوجدنا أن الهجمة الاستعمارية جاءت وعاشت خلال القرنين الأخيرين في بيئة محلية قابلة للاستعمار وعاجزة عن مقاومته مقاومة حقيقية، وأن الأمة فقدت من مقومات بقائها وتميزها ما جعلها قابلة للاستعمار عاجزة عن مواجهته بصورة حقيقية ونهائية وشاملة، وظلت محاولات البناء وإعادة الهيكلة إما قاصرة عن إدراك الأسباب الحقيقية للمشكلة، وإما مدركة لهذه الأسباب ولكنها تتحرك تحت ضغوط هائلة على كافة المستويات، ربما يكون المستوى الخارجي أهونها وأقلها تأثيرًا وخطورة.
يكفي أن الأمة أنفقت خلال القرنين الماضيين عقودًا طويلة حتى تدرك أنها أمام واقع استعماري شامل يحمل معه البوارج العسكرية مقرونة بوسائل الإعلام والسينما والمدرسة لإحداث خلخلة في بنية المجتمعات العربية والإسلامية وفي مفاهيمها وهويتها وولاءاتها؛ لذلك فإن عمليات الغزو العسكري كانت منطقية، والسيطرة الكاملة على المفاهيم والثقافات كانت -وما زالت- مبررة ووجيهة في ظل معطيات لا بد أن توصل إلى ما نشاهده ونراه من نتائج.
ما هي المخاطر التي تهدد كيان الأمة على المستوى الداخلي، وتشكل عوامل نخر في بنيتها ربما لا تقل في خطورتها وتأثيرها عن المخاطر الخارجية الاستعمارية؟
ولعل من أبرز تلك المخاطر وأكثرها تأثيرًا في تكريس الواقع المتردي الذي تعايشه الأمة:
التخلف الاقتصادي والتنموي.
التخلف العلمي والتقني.
التخلف الإيماني والتربوي.
التخلف المفاهيمي والمعرفي والتعليمي.
التخلف السياسي.
التفرق والأنامالية.
التخلف الأخلاقي والقيمي.

التخلف الاقتصادي والتنموي:
ونعني به عدم وجود رغبة لدى شعوب المنطقة العربية في إحداث تنمية حقيقية محلية، رغم أنها تمتلك الإمكانيات الملائمة لإحداث هذه التنمية سواء من موارد بشرية أو طبيعية، ولكنها فقط تفتقد الإرادة لإحداث هذه التنمية، ولا نقصد بذلك افتقاد الإرادة السياسية التي تخطط للتنمية فقط، ولكن أيضًا افتقاد الإرادة الجمعية الشعبية لتخطي حاجز التخلف الاقتصادي، وعدم الرغبة أو الاستعداد لتصحيح وبناء نموذج تنموي مستقل يتناسب مع طبيعة المنطقة، وينبع من داخلها؛ مما أدى إلى اعتماد النماذج الجاهزة، وأكثرها جاهزية النموذج الغربي المرتبط في الغالب بالاستعمار؛ لذا فقد جاء الاستعمار الاقتصادي بهذه الصورة ليملأ فراغًا موجودًا بالفعل بعد أن نحينا نحن بأيدينا نموذج التنمية المستقلة النابعة من ذاتيتنا وثقافتنا، وعندما جاء النموذج الغربي وجد فراغًا؛ فكان من الطبيعي أن يملأه.
وليس أدل على ذلك مما نقله كولن باول وزير الخارجية الأمريكي عن تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 م، الصادر عن الأمم المتحدة من أن "حوالي 14 مليون راشد عربي يفتقرون إلى وظائف هم بحاجة إليها لوضع طعام على موائدهم وسقوف فوق رؤوسهم وأمل في قلوبهم، وسيدخل زهاء 50 مليون عربي آخر من الشبان والشابات سوق الوظائف -المزدحمة أصلا- خلال الأعوام الثمانية القادمة"، مؤكدًا أن "الاقتصادات لا تولد ما يكفي من الوظائف؛ فالنمو ضعيف، والناتج المحلي الإجمالي لـ260 مليون عربي هو أقل مما ينتجه 40 مليون أسباني، كما أنه آخذ في التدهور، وإذا أضفنا إلى ذلك إنتاج 67 مليون إيراني تبقى النتيجة مجرد ثلثي الناتج الإيطالي".
- ووفقا لدراسة نشرها موقع "الجزيرة" على الإنترنت فإن الفقر يمثل أحد أهم التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية؛ فعلى مستوى العالم -الذي يعتبر نصف سكانه من الفقراء- يعيش نحو 1.3 مليار إنسان تحت خط الفقر. وفي العالم الإسلامي يعيش 37% من السكان تحت مستوى خط الفقر؛ أي ما يعادل 504 ملايين شخص تقريبا، وتبلغ نسبتهم إلى فقراء العالم 39%، وهذا يعني أن أكثر من ثلث سكان العالم الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر يسكنون دول العالم الإسلامي.
التخلف العلمي والتقني:
تخطئ الحضارة الغربية عندما تريد أن تقنع العالم بأنها صاحبة الفضل وحدها في الثورة العلمية الهائلة التي يشهدها العالم، وكأنها جاءت في سياق منفصل عن السياق الحضاري المتراكم عبر الحضارات السابقة، ولكننا نخطئ أكثر منها عندما نصدق هذا الوهم، ونتصور أن اطلاعنا على معطيات الثورة العلمية الحديثة نوع من التبعية يصيبنا بالهزيمة النفسية ويدفعنا إلى التسليم الكامل للحضارة الغربية على اعتبار أننا ما إن أخذنا الجانب العلمي فعلينا أن نأخذ الشق الأخلاقي؛ باعتبارهما متلازمين ومرتبطين لا ينفك أحدهما عن الآخر.
والحقيقة أن النموذج القيمي والأخلاقي الغربي ليس جزءا من النموذج العلمي.. فالأول هو وليد الحضارة الغربية بكافة مكوناتها وتشكيلاتها، والثاني نتاج تراكم جهود حضارية بذلتها البشرية كلها على مر العصور وباختلاف المواقع.
فنحن لسنا ملزمين عندما نواكب التطورات العلمية والتقنية التي تشكل مجمع العطاء الإنساني والبشري أن نأخذ الإطار القيمي والأخلاقي للحضارة الغربية على وجه التحديد، وإلا فلماذا لا نأخذ مع التقنية المتطورة المنظومة القيمية والأخلاقية للشعب الياباني أو الشعب الصيني، رغم أن كلا النموذجين (الياباني والصيني) له خصوصية أخلاقية وقيمية ليست متطابقة أو متماثلة مع مثيلتها الأوروبية أو الأمريكية.
وفي كل الأحوال ووفقا لكافة التفسيرات تظل الحقيقة التي لا نملك أن نتصادم معها أن أمتنا متخلفة على المستوى العلمي والتقني، وهاهي دراسة علمية تكشف أن المواطن العربي ينفق قرابة 3 دولارات فقط للفرد على البحوث؛ وهو ما يعني اتساع الفجوة الرقمية بين البلدان العربية والدول الصناعية المتقدمة نتيجة تدني مستويات الإنفاق العربي على مجالات البحث والتطوير.
وبالمقابل –كما تؤكد الدراسة التي أعدها الدكتور عزت قناوي مدرس الاقتصاد بالمعهد العالي للدراسات النوعية بالجيزة– يقفز معدل الإنفاق على البحث العلمي للفرد في الدول الغربية إلى 409 دولارات في ألمانيا، و601 دولار في اليابان، و681 دولارا للفرد الأمريكي.
كذلك كشفت دراسة أخرى صدرت عن مركز دراسات الدول النامية بجامعة القاهرة تحت عنوان: "مستقبل علاقات القوى الاقتصادية في الشرق الأوسط" عن أن الإنفاق على البحث والتطوير بلغ 1.8% من إجمالي الناتج المحلي في إسرائيل، بينما لم يتجاوز 0.2% في كل الدول العربية، كما تجاوز عدد الدوريات العلمية الصادرة في إسرائيل أكثر من ضعف ما يصدر في الدول العربية كلها(370 للأولى ،و173 للثانية).
ورصدت الدراسة ما سجله الإسرائيليون من براءات اختراع في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، موضحة أنها بلغت 139 براءة اختراع، فيما لا توجد براءات اختراع مسجلة بأسماء عربية، وذلك وفقًا لبيانات سنة 1999 م.
- وفي المقابل فإن هذا التخلف التكنولوجي الواضح لا يعني أننا نفتقد الإمكانات البشرية الحقيقية التي يمكنها أن تصنع تنمية علمية حقيقية، ولكننا نفتقد في الغالب السياسات والمؤسسات العلمية التي تستوعب الطاقات البشرية والخبرات العلمية المتميزة التي تهاجر يوما بعد يوم، وتفر من منظومة متخلفة لتجد نفسها بين يدي منظومة تستوعب إمكاناتها وتوظفها التوظيف الأمثل، ولكن بعيدًا عن أرض الوطن، وهاهو تقرير أصدرته الجامعة العربية عام 2001 حذر من أن العالم العربي خسر 200 مليار دولار بسبب هجرة الكفاءات العلمية والعقول العربية للدول الأجنبية.
ووصف التقرير التقدم العلمي والتكنولوجي الإسرائيلي على العرب بأنه "كارثة جديدة تهدد مستقبل الشعوب العربية"، مؤكدًا أن إسرائيل تفوقت في السباق العلمي مع العرب عن طريق إغراء العلماء الأوروبيين والأمريكيين وتوطينهم داخل إسرائيل، في الوقت الذي تتزايد فيه هجرة العلماء العرب إلى الخارج، وفشلت الدول العربية حتى الآن في استعادتهم أو الاستفادة منهم.
ونذكر على سبيل المثال ما جاء في إحصائية صادرة عن المشروع القومي لتنمية بيانات المصريين المتميزين أن هناك ‏824‏ ألف عالم وخبير مصري في الخارج‏,‏ من بينهم ‏318‏ ألفا في الولايات المتحدة‏,‏ و‏110‏ آلاف في كندا‏,‏ و‏70‏ ألفا في أستراليا‏,‏ و‏336‏ ألفا في دول أوروبا‏.‏
وذكر إحصاء صادر عن الجهاز المركزي المصري للإحصاء أن هناك ‏2455‏ عالما في التخصصات الحرجة والإستراتيجية مثل الطب‏,‏ والطب النووي‏,‏ والعلاج بالإشعاع‏,‏ والهندسة النووية‏,‏ وعلوم الفضاء‏,‏ والهندسة الوراثية‏,‏ إلى جانب رجال الأعمال أصحاب المشروعات العملاقة والتكنولوجيا المتطورة. وعندما نتكلم عن التخلف العلمي والتقني في منطقتنا العربية والإسلامية ندرك أننا تعاملنا معه بصورة مبتورة ومشوشة، تعتمد على:
- نقل مخرجات التقنية العلمية دون تركيز على مدخلاتها وأسسها.
- استهلاك التقنية، وليس البحث عن وسائل الواقع المحلي وخصوصيته.
- الدمج غير المبرر بين التقنية العلمية والحضارة الغربية في إطارهما القيمي والأخلاقي، والتعامل معهما على أنهما منظومة واحدة لا تتحقق التنمية الحقيقية إلا من خلال التعامل معهما جملة واحدة، متناسين أن الشق التقني إنساني في المقام الأول ساهمت فيه حضارتنا الإسلامية بدور بارز خلال أحقاب سابقة، وساهم فيه الغرب اليوم بدور بارز، وتساهم الأمم الأخرى أيضًا فيه بدور لا يقل أهمية.
- عدم وجود دافعية سواء على مستوى القرار السياسي أو الرغبة الجماهيرية في بناء منظومة علمية وتقنية، تناسب واقعنا، وتساعد على إحداث تنمية ذاتية محلية تلتقي مع التطورات التقنية الحديثة، وتحتفظ لنفسها بسمت خاص.
- عدم توفير بيئة علمية ملائمة لرعاية النوابغ والكوادر العلمية المتميزة؛ مما يدفعها إما إلى القنوط واليأس والإحباط، أو الخروج إلى دولة صناعية متقدمة تمتلك بيئة علمية مناسبة، ولا شك أن حالة الخروج بهذه الصورة لا تشكل ظاهرة صحية؛ إذ تكون مفعمة بالتجارب المريرة التي تدفع صاحبها إلى الاندماج في منظومة النموذج الغربي بكافة تشكيلاته وتفاصيله.

التخلف الإيماني والتربوي:
فقد سبق أن واكبت واستمرت مع الهجمة الاستعمارية الحديثة خلال القرنين الأخيرين ظاهرة تركت بصماتها واضحة وجلية على الأمة، وصنعت فيها فراغًا جعلها مهيأة وقابلة للاستعمار.. تلك هي ظاهرة التخلف الإيماني والتربوي التي منيت بها الأمة، ومن أبرز مظاهرها:
- تراجع دور المساجد وانحساره في تأدية العبادات، وحتى هذا الدور شهد تراجعًا ملحوظًا في رواد المساجد والمقبلين عليها؛ مما شكل خطورة هائلة على المفاهيم الإيمانية التي كان للمسجد دور بارز ومهم في تزكيتها من خلال حلقات الذكر وقراءة القرآن ودروس العلم والاجتماع على الصلاة خمس مرات في اليوم، فلم يعد المسجد الرمز الذي يلجأ إليه المسلمون، ويؤوبون إليه أوقات الرخاء، ناهيك عن أوقات الشدة.
- تراجع دور العلماء في التأثير وانحسار دورهم داخل المساجد تحديدًا في أداء الشعائر فقط، في الوقت الذي ظهرت فيه وسائل الإعلام وثورة الطباعة التي اعتمدت في مادتها على مفاهيم حضارية مادية؛ مما ساعد على سيادة الخطاب المادي والاستهلاكي على الخطاب الإيماني والتربوي الذي قبل التراجع إلى جدران المساجد..
وقد دفع إلى عجز العلماء عن صياغة هذا الخطاب الإيماني المرتبط بالواقع عدد من العوامل، منها: - عجز المناهج التعليمية في عدد من المؤسسات التعليمية الدينية عن تطوير نفسها وتحديث أساليبها؛ مما جعلها في كثير من الأحوال جامدة عاجزة عن بناء شخصية إيمانية فاعلة على أرض الواقع.
- شيوع مقولة إغلاق باب الاجتهاد الذي فتحه الإسلام بشروطه من العصر النبوي الأول والذي لا يملك أحد أن يغلقه أو يواربه، وبالتالي اعتمدت مناهج التعليم التي تخرج العلماء على المتون والشروح التي كتبها أصحابها لأبناء عصورهم، وكانت بحاجة إلى من يمتص رحيقها ليعيد عرضها بطريقة تستوعبها وتتفهمها أجيال جديدة. ولعل هذه المقولة تطرح علينا سؤالا يحتاج إلى إجابة: لماذا كتب علماؤنا في حقب زمنية متعاقبة رسائل علمية حول عناوين يتقارب بعضها مع البعض الآخر؟ وليس لذلك معنى سوى أن كل عالم كان يكتب بلغة عصره، ويمتص رحيق من سبقه ليكتب من جديد بلغة عصره، وقد فتح هذا الجمود الباب واسعًا أمام النخب العلمية المتقربة إلى تقليل أهمية البناء والتكوين الإيماني والتربوي، وإشاعة ثقافة التحلل والتراجع القيمي والتربوي والإيماني نتيجة فراغ الساحة أو ضعف البنية التعليمية الإيمانية.
- تراجع المفاهيم الإيمانية الصافية المستمدة من الكتاب والسنة على حساب مفاهيم ظاهرها التدين وباطنها التخلف، فانتشرت الخرافة والسلبية والتواكل، ولكنها في الوقت نفسه ارتدت عباءة التدين؛ فكانت خطورتها على الأمة أشد مما يفعله أعداؤها.
التخلف المفاهيمي والمعرفي:
وقد لمسنا بعضًا من ذلك في تخلف مناهج التعليم في المعاهد الدينية، إلا أن دائرة التخلف كانت أوسع من ذلك؛ حيث وصلت إلى مناهج التعليم بصورة عامة التي افتقدت رؤية حضارية أو منظومة تنموية تسعى لتكريسها وبنائها.

التخلف السياسي:
ويعد هذا النوع من التخلف سببًا رئيسيًا في التواطؤ على بقاء واستمرار أشكال التخلف المختلفة، وهذا النوع من المظاهر الخطيرة والآثار الوخيمة على حاضر الأمة وواقعها، ومن ذلك:
- الحكم الفردي المستبد.. فمعظم أنظمة الحكم في عالمنا العربي والإسلامي تعتمد بصورة واضحة على نموذج الحكم الفردي المستبد؛ فالقوانين والدساتير والنظام السياسي ومجالات العمل الأهلي والأحزاب السياسية.. كل ذلك وغيره مآله إلى فرد واحد ربما تحيطه مجموعة من المستشارين في بعض الأحيان، وربما تتبعه بعض البرلمانات أو مجالس الشورى الشكلية، إلا أن مردها في النهاية إلى الفرد. وربما يكون من مهمة هذه المجموعات الاستشارية أو تلك البرلمانات والمجالس الشورية أن تستشرف رغائب الحاكم وتتوقع رؤيته حول قضية بعينها فتسابق في طرحها وعرضها، ولا شك أنه يدخل في بنية عملها متابعة كل شاردة أو واردة في خطاب مهم أو كلمات رائعة -وإن كانت عابرة- لتتحول هذه الكلمات إلى قوانين وتشريعات، ربما يعجب الحاكم نفسه من وجودها!!
- الاستبداد الجماهيري.. ولا نستطيع أن نتصور أن مكمن الخطورة في هذا النموذج تتجلى في الحاكم المستبد فقط، ولكن أيضًا في المحيط الجماهيري الذي يقبل هذا النموذج وينميه، وفي الطفيليات المستفيدة من هذا النموذج التي تقتات عليه وتبني آمالها في رحابه.
وخطورة نموذج الحكم الفردي المستبد لا تقتصر على الآثار المترتبة على استبداده في محيط القرارات والقوانين، ولكن على المدى الجماهيري الواسع الذي يتأثر بدوره بالنموذج، ثم ما يلبث أن يتقمصه ويتبناه لتجده بعد ذلك نموذجًا متكررًا بكل موضع في طول العالم العربي وعرضه وعلى كافة المستويات إلا من رحم الله وقليل ما هم؛ فالنموذج يتكرر في المؤسسات والشركات والوزارات والإدارات التابعة لها. فالنموذج المستبد يرشح بشروره على شعبه ليتحول الكبار والصغار والمتوسطون إلى مشاريع حاكم مستبد.
- الركود وعدم التجديد؛ وذلك نتيجة انعدام الحراك والتغير الناتج عن ثبات الحاكم المستبد وعدم قدرته على التطوير والتجديد ربما بسبب طول المكث والبقاء، وربما لعدم وجود مبرر للتطوير والتجديد لتراجع أو انعدام أي قدرة جماهيرية على تغيير الحاكم أو زحزحته من عرشه. - اليأس والإحباط.. وبطبيعة الحال فإن اليأس والإحباط لا يتسربان منذ البداية، ولكن مع عمليات القمع والسحل التي يتعرض لها كل من تسول له نفسه أن يعبر عن رأيه أو يقدم رأيًا مختلفًا عن رأي الحاكم الذي يعتمد النموذج الفرعوني: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}. انسداد قنوات التعبير وأدوات التغيير حتى تلك البعيدة عن صولجان العرش، ليتم تأميم هذه القنوات وتلك الأدوات وإن كانت لا تؤثر بصورة مباشرة وفاعلة، إلا أن سدها ومصادرتها أمر يكون على سبيل الاحتياط.
افتقاد الانتماء.. خاصة أن تنمية روح الانتماء لا تتم إلا من خلال المشاركة الفاعلة في المجتمع، التي تدفع أصحابها إلى الإحساس بأنهم جزء من ذلك الوطن الذي ينتمون إليه، بينما يذوب هذا الإحساس وسط الشعور بالاغتراب وعدم القدرة على الإسهام في بناء الوطن.

التفرق والأنامالية:
قد يكون التفرق والأنامالية أحد إفرازات الديكتاتورية والتسلط نتيجة افتقاد المشاركة أو الإحساس بالقدرة على التأثير أو التغيير، ولكن قد تكون الأنامالية أيضًا أحد إفرازات الثغرات الشعوبية والقومية، خاصة إذا نقلنا الحديث إلى الكيان الكبير للأمة، وربما بسبب تسيد قيم الاستهلاك والمادية.
وباستعراض سريع لواقع العالم العربي والإسلامي خلال العقود المتأخرة نكتشف أن هناك عددًا كبيرًا من النزاعات والصراعات التي شغلت الأمة عن التحديات الحقيقية التي تواجهها، ووفقًا لدراسة نشرها موقع "الجزيرة" على الإنترنت وبمتابعة العقود المتتالية نلاحظ عددا من النزاعات البينية:
- من 1950 وحتى 1959 م تنازعت 9 دول إسلامية فيما بينها.
- ومن 1960 حتى 1969 م ارتفع عدد الدول المتنازعة إلى 21 دولة.
- ومن 1970 حتى 1979 م وصل العدد إلى 22 دولة.
- ومن 1980 حتى 1989 م نقص العدد دولة واحدة ليعود إلى 21 دولة.
- ومن 1990 حتى 2000 م بقي العدد كما هو 21 دولة.
بالنظر إلى عدد مرات وقوع النزاعات في العالم الإسلامي نجد أن 127 نزاعاً وقع في فترة زمنية تزيد عن 6 عقود (1940 - 2000 م) شاركت فيها 37 دولة إسلامية.
بالنظر إلى ما تقدمه الأرقام التقريبية لخسائر النزاعات بين دول العالم الإسلامي (الأرقام المتوفرة تخص فقط الخسائر البشرية) نلاحظ التالي:
- بلغ عدد خسائر النزاعات في الأرواح ما يقرب من 600 ألف قتيل.
- عقد الثمانينيات وعقد التسعينيات هما أكثر الفترات الزمنية خسائر؛ إذ يصل عدد من سقطوا فيهما إلى حوالي 550 ألف قتيل.
- منطقة الخليج العربي (حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق) وشبه الجزيرة العربية (حرب الخليج الثانية ) هما أكثر المناطق خسائر.
- الدول الإسلامية في آسيا تحملت العبء الأكبر من الخسائر؛ إذ سقط فيها أكثر من 95% من ضحايا النزاعات.
- الدول الإسلامية الغنية (خاصة بالنفط) مثل العراق وإيران والكويت وليبيا تتحمل العبء الأكبر من الخسائر.التخلف الأخلاقي والقيمي:
ويبرز هذا الجانب في تدني القيم الحاكمة في المجتمع، وشيوع عمليات السرقة والنصب والتزوير والاختلاس والرشوة والانحلال الأخلاقي والقيمي والتفسخ الاجتماعي والعنف داخل كيانات المجتمع المختلفة، سواء داخل الأسرة أو المدرسة، بالإضافة إلى انعدام الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع واستيعاب بعضها للبعض الآخر.
وقد صنفت مؤسسة "الشفافية الدولية" -وهي مؤسسة غير ربحية يشرف عليها البنك الدولي- 85 دولة حسب مدى انتشار الفساد في سلم تنازلي من 10 (الأكثر نزاهة) إلى صفر (الأقل نزاهةً). ووفق هذا السلم فإن أكثر الدول الإسلامية نزاهة جاءت في موقع متوسط من هذا السلم، واعتبرت ماليزيا من بينها الأكثر نزاهة وحصلت على 5.3 نقاط، تلتها تونس (5 نقاط)، ثم الأردن (4.7 نقاط)، أما أقل الدول الإسلامية نزاهة فهي نيجيريا وحصلت على 1.9 نقطة، ثم إندونيسيا (نقطتان)، ثم باكستان (2.7 نقطة).
[4] محلية أم شاملة؟
ونعود لنسأل عن طبيعة المعركة: هل هي محلية تقتصر على قُطر من الأقطار أم أنها تتسع لتشمل كافة البلدان العربية والإسلامية؟
وتحتاج الإجابة على هذا السؤال عددًا من المحاور والنقاط التي تحتاج إلى تأكيد:
- إن رغبة الولايات المتحدة في الهيمنة والسيطرة لا تقتصر فقط على الدول والبلدان العربية والإسلامية، وإنما تتسع لتشمل الهيمنة وبسط النفوذ على العالم كله، وهو ما عبر عنه أكثر من مسئول أمريكي بأن القرن الواحد والعشرين ينبغي أن يكون أمريكيًا خالصًا.
- إن البلدان العربية والإسلامية هي الحلقة الأكثر خطورة في طريق الولايات المتحدة لقيادة العالم؛ فرغم إمكانية احتواء هذه المنطقة من خلال أنظمة ديكتاتورية يمكنها أن تقمع شعوبها لتذليل العقبات وتحقيق المصالح الأمريكية.. فإن الواقع يؤكد أن هناك صعوبات بالغة تكتنف إقناع الشعوب بهذه الهيمنة الاستعمارية واستمرارها.
- إن أوروبا تشعر أنها والولايات المتحدة جزء من حضارة واحدة، وإن تباينت المصالح أحيانًا، إلا أنهما في نهاية المطاف يتفقان بصورة كبيرة.
- تحرص الولايات المتحدة ومعها الأنظمة الحاكمة في المنطقة على إقناع الشعوب بأن الهيمنة الاستعمارية بمفهومها الشامل لا تستهدف الجميع، ولكنها فقط تستهدف من يخرج عن المألوف أو يتخطى الحدود، وأن هناك نموذجًا يمكن أن يكون مثاليًا في التعامل مع الولايات المتحدة، ويحتفظ في الوقت نفسه بنوع من الاستقلال النسبي.
- معطيات الواقع تؤكد أن الهيمنة الأمريكية بصورتها الشاملة لا تستثني قُطرًا أو دولة من الدول في المنطقة، وأنها ترشح عددًا من الدول العربية والإسلامية للغزو المباشر، بينما ترشح دولا أخرى للغزو بالوكالة من خلال دول أخرى، وتفرض وجودها من خلال القواعد العسكرية على بعض البلدان دون معارضة من أولي الأمر في تلك البلدان ودون حاجة إلى غزو عسكري. أما ما تبقى فربما تتراجع أهميته الإستراتيجية أو تقل المخاوف منه، إلا أن الجميع مشمول بالهيمنة الثقافية والفكرية والأخلاقية كإجراء وقائي يضمن عدم الخروج من بيت الطاعة الأمريكي.
اليأس لا يصنع النصر
من خلال الاستعراض السابق للتصورات الأمريكية لمستقبل المنطقة ورؤيتها لما تؤول إليه أمتنا ومن خلال تواصل المحن والهزائم على الأمة يصاب أفراد الأمة بالإحباط واليأس، وربما يتسرب هذا الإحباط وذلك اليأس إلى القوى الفاعلة في الأمة والمؤهلة لأن تقودها إلى مفاتيح النصر الحقيقية.. ولا شك أننا كبشر نصاب بالوهن والحزن على واقع متراجع ومستقبل لا يبشر بخير، وهو أمر لا يرفضه الإسلام إذا كان عند منسوبه الطبيعي والآمن.
أما المحظور إسلاميًّا والمرفوض شرعًا وعقلا هو أن نصل إلى تخوم الإحباط وحدود اليأس؛ فالله تعالى يقول: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139)، ويقول سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} (يوسف: 110)، والاستيئاس لا يصل بالمؤمن إلى دائرة الإحباط والتوقف عن العمل، وإنما هو تعبير طبيعي عن شعور فطري يتفجر في النفس البشرية سرعان ما يلتقي بينابيع الإيمان الصادق وملامح الفهم الدقيق؛ فتلجم هذه الأحزان المتفجرة، وتمنعها من إطفاء جذوة العمل والبناء في الطريق الصحيح.
وإذا أردنا أن نضع أيدينا على العلاج المناسب للأمراض التي تعانيها الأمة؛ فمن المناسب أن نستعرض الأسباب التي تدفع باليأس أن يتسرب إليها لتصل بها مشاعرها إلى تخوم الإحباط وعدم الرغبة في استئناف العمل والنشاط.. ومن ذلك:
- عدم فهم الأزمة بصورة حقيقية وفي سياقها العام، وعدم وضعها في إطار منظومة متكاملة تبدأ من ملامح التخلف التي تحياها الأمة في مختلف المجالات، وعدم أخذها خطوات جادة في طريق البناء الصحيح، إضافة إلى تفوق أعدائها وامتلاكهم لأسباب القوة، وأخذهم بأسباب التفوق.
- غياب القراءة الواعية للتاريخ، واستلهام الدروس منه، والتعرف من خلاله على أسباب النصر وأسباب الهزيمة، والوقوف من خلاله على السنن الإلهية في الكون، وتعميق القدرة على التمييز بين العدو والصديق.
- التفاؤل غير الرشيد.. فرغم أن المطلوب من المسلم أن يكون متفائلا أملا في نصر الله؛ فإن ما نرفضه هو عدم الرشد في هذا التفاؤل الذي قد يصل أحيانًا إلى حد السذاجة؛ فهو تفاؤل بعيد عن الواقع منبتّ الصلة عن معطياته، وهو أشبه بتفاؤل التلميذ الذي أعطى ظهره لكتابه طيلة العام، ويتفاءل بالنجاح رغم ذلك!!
- الوقوع في براثن الحرب النفسية التي يقودها المستعمر لإضعاف الروح المعنوية.
اليأس غير مشروع
وعندما نطرح أسباب اليأس والإحباط لا يعني أننا نبرره أو نقبله، ولكن نبحث الأسباب، ونتعرف عليها لتجنبها؛ إذ لا مجال أمام المسلم سوى رفض اليأس والقنوط، وإلا وجد نفسه في مواجهة مع مقتضيات الشرع والعقل في آن واحد.. فاليأس بمعيار الشرع مرفوض، وبمعيار العقل لا يقود إلى النصر، ويحرم الأمة من الاستفادة القصوى من إمكاناتها وتسخيرها في الاتجاه الصحيح لقطع خطوات جادة نحو النصر، وهاهو القرآن الكريم يضع لنا معالم الطريق، ويحدد لنا غاياتنا وأهدافنا، ويصف لنا العلاج الناجح مما نعاني.. يقول تعالى:
{وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف: 78)، قال تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56)، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 110). {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214).
ويقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53).
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باعثًا الأمل في نفوسنا مهما ادلهمت الخطوب، وضاق الأفق، واستبد العجز واليأس بالإنسان: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل".
إن منطق الإيمان بقدرة الله على تذليل الأسباب وتيسيرها لأهل الإيمان لينفضوا غبار التخلف الشامل الذي حاق بهم هو منطق جدير بالمسلم، وجدير بإيمانه وأمله في تأييد الله وعونه.
أحاديث نهاية الزمان
يعجب المرء أشد العجب -خاصة إذا كان متابعًا للأحداث بصورة دقيقة- من التواكب العجيب والتلاقي المذهل بين صدور بعض الكتب وشيوع عدد من الشائعات حول نهاية الزمان وبين الأزمات الكبرى والأحداث الجسام التي تمر بها الأمة..
وما إن يخفت الحدث الجلل حتى تخفت معه تلك الأصوات لتعود من جديد وتبني على ما سبق أن ذكرته عندما تظهر حادثة أخرى عظيمة يتعرض فيها المسلمون للابتلاء بالهزيمة.
ورغم أن العجب من هذا التلازم والتواكب يدفع المرء أحيانًا إلى سوء المظنة فيمن يردد هذا الكلام.. فإن الإنسان سرعان ما يعود إلى رشده، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، دافعًا عنه سوء المظنة؛ ليضع هذه الشائعات وتلك الأصوات في مجمل التخلف والجهل الذي حاق بالأمة.
فما إن تقع حادثة عظيمة من غزو أو استعمار أو هجوم على قُطر من أقطار الأمة، وما إن يتفاعل المسلمون مع الأزمة ويبدءوا في إمعان التفكير في تلك الحادثة والبحث عن أسبابها، وما إن يشرعوا في التعرف على عدوهم ويبدءوا في إدراك قضيتهم واستيعاب مجريات الحدث.. حتى تظهر تلك الأصوات التي تتكلم تارة عن ظهور المسيخ الدجال أو قرب ظهوره، أو عن حتمية ظهور المهدي خلال أيام أو أسابيع، أو عن الوصول سريعًا إلى معركة فاصلة ليس للمسلمين دور في التمهيد أو الإعداد لها، وإنما تحدث دون ترتيب من أحد.
يشيع هذا كله وغيره ليصل بالمسلمين إلى قمة الإحباط الذي تطلعوا إلى سفحه مع بداية الأحداث، وليصل بهم إلى قناعة بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وأن ما حدث وما هو مرشح للحدوث إنما هي وقائع لا ريب حادثة ولا مبرر لتحاشيها، ولا فائدة من تلافيها، ولا ضرورة لاحتوائها؛ فقد انفض سرادق الحياة، وأوشك الزمان على الرحيل، وباتت ملامح النهاية المحتومة.. فلماذا إذن العمل؟ ولماذا نشغل أنفسنا بخطط ودراسات واستطلاعات وأبحاث ورؤى وتصورات، وقد سبق السيف العزل؟
هذا هو الواقع المرير الذي مر ويمر بالمسلمين كلما ارتفعت تلك الأصوات، وما إن تردد الحديث عن الأزمات، وهو ما يحتاج إلى توضيح وتفهيم:
- إن أحاديث المهدي المنتظر -كما ذكر فضيلة الشيخ سلمان فهد العودة في دراسة نشرت له بموقع " الإسلام اليوم " على شبكة الإنترنت- ورد منها الموضوع والضعيف والحسن وأقلها الصحيح، ومن هذه الأحاديث استخلص الفقهاء ما يجب اعتقاده تجاه هذه القضية، وهو أن المهدي حقيقة لا تنكر؛ حيث يخرج آخر الزمان خروجًا عاديًا يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا من قبل، وخروج المهدي بهذه الصورة لا يوجب على المسلمين أن ينتظروه أو يتربصوا به السنين؛ فظهوره لا يلغي الشرائع ولا ينسخ الأحكام، ومن تباطأ فيما وجب عليه متذرعًا بانتظار المهدي؛ فقد خالف نهج المسلمين.
- ويقول الشيخ سلمان: إن أهل السنة يؤمنون برجل من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج في آخر الزمان خروجًا طبيعيًا، يولد كما يولد غيره، ويعيش كما يعيش غيره، وربما يقع منه الخطأ، ويحتاج إلى إصلاح مثل غيره من الناس، ثم يكتب الله على يديه خيرًا كثيرًا، وبرًا وصلاحًا للأمة وعدلا، ويجمع الله به شمل المسلمين ليس هناك أكثر من هذا. كما هو وارد في الأحاديث، ولم يرد في أي نص من النصوص أننا متعبدون بانتظاره، أو ترقبه، بل ينبغي ألا يقبل أي مسلم مثل هذا الادعاء بمجرد الاشتباه، حتى تقوم الأدلة الكافية؛ فإن المدعين كثير منذ فجر التاريخ.
والمسلم مطالب بالتثبت والتحري والأناة، وألا يستعجل الأمور بمجرد الرغبة أو الهوى النفسي. ويقول الشيخ سلمان: "إن خروج المهدي لا يتوقف عليه أي شعيرة شرعية، نقول: إنها غائبة حتى يأتي الإمام المهدي، فلا صلاة الجمعة، ولا الجماعة، ولا الجهاد ، ولا تطبيق الحدود، ولا الأحكام، ولا شيء من ذلك مرهون بوجوده؛ بل المسلمون يعيشون حياتهم، ويمارسون عباداتهم، وأعمالهم، ويجاهدون ويصلحون ويتعلمون ويعلّمون، فإذا وجد هذا الإنسان الصالح، وظهرت أدلته القطعية التي لا لبس فيها اتبعوه.
وعلى هذا درج الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وتتابع على هذا أئمة العلم على تعاقب العصور؛ ففكرة سيطرة الترقب، والانتظار، والمبالغة بهذا أمر حادث".*
ومن خلاصة ذلك ندرك عددًا من النقاط التي يجدر الإشارة إليها:
- هناك وقائع تاريخية كثيرة حدثت في الماضي وتكررت وتشابهت مع ما نعيشه اليوم من أحداث، وكان بإمكان البعض حينها أن ينحرف بفكره ويسقط عليها أحاديث الفتن، ولو أخذ المسلمون إبان الحروب الصليبية أو حروب التتار هذا المنحى في التفكير لتقاعسوا عن الجهاد وإعداد الأمة للعودة من جديد إلى الصدارة.. فقد كان من الممكن أن يبرر البعض خيانة الأمراء الذين سهلوا وتواطئوا مع الحملات الصليبية باعتبار أن هناك أحاديث نبوية تتكلم عن تحالف المسلمين والنصارى في وجه قوى أخرى ربما كان من السهل حينها أن يفسرها البعض بالتتار.
- إن إسقاط الأحاديث على واقع بعينه بطريقة لم تجمع عليها الأمة يُعد من أخطر ما قد تتعرض له الأمة من الفتنة على يد ثلة من أبنائها يحولون بينها وبين الجهاد الشامل لإعادة البناء وتحقيق السبق الحضاري لتكون كلمة الله هي العليا.
- هناك خلل واضح في منهج التعامل مع النبوءات والمبشرات؛ فالمنهج الذي يرشحه لنا هؤلاء هو منهج الانتظار والصمت حتى تقع الأحداث دون جهد أو جهاد، بينما تعامل الصحابة -رضوان الله عليهم- مع نبوءات فتح فارس والقسطنطينية وغيرها من بشارات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالعمل الجاد والجهاد الدائب والتخطيط المستمر، وبعد ذلك كله ترقبوا النصر الذي كان قاب قوسين أو أدنى منهم. - إننا ندرك تمامًا أننا في آخر الزمان؛ فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو نبي آخر الزمان؛ حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بإصبعيه، ولكن لم يمنع كل ذلك من جهاده -صلى الله عليه وسلم- وحثه أمته على العمل والجهاد والبناء والتصويب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا فعل صحابته، رضوان الله عليهم.
- إن معايير الزمن عند الله غيرها عند الإنسان {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47)، {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (المعارج: 6-7).
- إن الله تعالى استعبدنا باتباع منهجه الذي أنزله في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعلى المرء أن يشغل نفسه باتباعه للمنهج وسيره على الهدي النبوي بغض النظر عن مآلات العمل ونتائجه أو حتى مآلات الدنيا.. وهاهو -صلى الله عليه وسلم- يجيب من يسأل عن توقيت الساعة فيصرفه عن ذلك إلى التفكير في العمل لها؛ فيقول -صلى الله عليه وسلم- عندما يسأله سائل متى الساعة؟ فيقول: "وماذا أعددت لها؟".
- إن قيامة الإنسان بموته قد تكون أقرب من الساعة العامة التي ينتظرها البشر جميعا، وهو ما يجدر بالمرء أن يشغل نفسه به عملا وسعيًا واتباعًا للمنهج.
- منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهديه في آخر الزمان وأيضًا في آخر الحياة أن يعمل المرء حتى يلقى ربه "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل".

أمم لا تيأس
لعل من أشد ما يثير العجب أن يتفشى اليأس والإحباط ثم الانبطاح والاستسلام لمطالب وأطماع المستعمر في أمة يحرم دينها اليأس، ويرفض الإحباط بل يعده من الأمور التي يخشى على إيمان المرء إن تسربت إليه أو تملكت عليه نفسه.. بينما تصمد أمم لا تملك هذا اليقين، ولكنها رغم ذلك تملك إرادة صلبة في مواجهة محاولات الهيمنة والسيطرة، ونقف هنا عند نموذجين من نماذج الصمود والتحدي ضد الهيمنة: الأول في كوريا الشمالية والثاني في كوبا.
ففي المثال الأول نلاحظ المعاناة الاقتصادية الكورية إزاء عمليات الحصار المستمرة من قبل الولايات المتحدة منذ نصف قرن، بل إن كوريا الشمالية تعد أول بلد استخدمت فيه واشنطن الأسلحة البيولوجية والكيماوية ضد البشر والحيوانات والنباتات عام 1952 ؛ الأمر الذي ترك آثاره المدمرة على الاقتصاد والحياة في كوريا، ولم تتوقف واشنطن عند ذلك بل قادت حربًا شرسة لحرمان الكوريين الشماليين من حقهم الطبيعي والقانوني في الحصول على تعويضات عن العبودية الجنسية التي تعرض لها عشرات الآلاف من نسائهم في قضية نساء التسلية، وهي القضية التي اختطف فيها الجنود اليابانيون نساء كوريا، وقادوهن قسرًا ليعشن معهم كسبايا في المعسكرات؛ ليعاشروهن جنسيًا تحت سطوة السلاح، ثم يرمونهن بعد انتهاء الحرب بأطفالهن غير الشرعيين في الشوارع، إلا أن الولايات المتحدة اعتبرت حرمان كوريا الشمالية من التعويضات عن الرق البالغة 18 مليار دولار جزءًا من الحصار.
ورغم عمليات الحصار التي تزداد يومًا بعد يوم؛ فقد نجحت كوريا في إيجاد أجواء لصناعة عسكرية ناجحة، تصدر منتجاتها إلى الدول الصغيرة التي تسعى للتسليح التقليدي وغير التقليدي، ويشير معهد الدراسات الاقتصادية الدولية في واشنطن إلى أن الصادرات العسكرية الكورية بدأت تنزل الملعب بشكل مكثف في أوائل الثمانينيات، ووصلت عام 1985 إلى مليار ونصف مليار دولار، ويتوقع المعهد أن تكون الصادرات العسكرية قد وصلت الآن إلى أرقام متقدمة تعد بالمليارات لتمثل الركيزة الأولى للاقتصاد الكوري الشمالي، في الوقت نفسه أبرمت كوريا الشمالية اتفاقات مع الصين بملايين الدولارات كاستثمارات أجنبية تتمتع بضمانات وإعفاءات وحقوق تحويل مباشر.
المثال الثاني من كوبا حيث تفرض الولايات المتحدة العقوبات عليها منذ عام 1959 ، إلا أن الحصار زادت وطأته منذ عام 1990 عندما سقط الاتحاد السوفيتي، وأصبح حصار اليوم مطلقًا؛ حيث تملك الولايات المتحدة مجمل الأوراق التي تشكل متنفسًا للاقتصاد الكوبي، متمثلة في الاستثمار والتكنولوجيا وإعلان الأسواق، والضغط على عائدات الخارج، وبتخفيف صناعة السياحة وتبخير صناعة السكر. ورغم هذه المصاعب فإن كوبا استطاعت تطوير أدائها خاصة في مجال الزراعة العضوية التي ركزت على ثلاثة محاور:
أولها: تطوير نظام أيكولوجي (بيئي حيوي) بديل يقوم على السيطرة البيولوجية على الآفات الزراعية بدلا من المبيدات والكيماويات (مثل استخدام جذع الموز وتطعيمه بالعسل لجذب حشرات معينة للأرض).
ثانيها: زراعة المدن أو بالأدق حدائق المدن بمحاصيل مثمرة.
فهناك حوالي 8 آلاف مزرعة رسمية فقط في هافانا يزرعها 30 ألف فلاح كوبي مقسمة إلى مؤسسات وأفراد، وحدائق الاستهلاك الذاتي، ويزرعها ويستهلك إنتاجها العمال، ويرسل إنتاجها لمطاعم المصانع والجامعات، وحدائق خاصة (أفراد).
والمحور الثالث هو تطوير الآلات الزراعية القديمة (المحراث القديم مثلا) لوقف الاحتياج إلى التكنولوجيا.
ويضحك الكوبيون عادة عندما يقول زوارهم: إنهم أبدعوا تجربة جديدة، ولا يملون -كما يروى صحفي أمريكي- من القول بأنهم لم يفعلوا أكثر من استلهام تراث إنسان بالعودة إلى فترة قريبة ترجع إلى أوائل القرن الثامن عشر، حين كانت زراعات المدن تكفل أكثر من 70% من غذاء أهل المدن. وترصد الأمريكية باتريشيا جروب في كتابها "الزراعة في كوبا.. من الحديقة إلى المائدة" أن الزراعة المثمرة يمكن أن تقابلك في كل مكان: في الزهريات.. في البراميل.. وفي التراس. وإنه في عام 1999 كان هناك 33 مشروعًا كبيرًا لإنتاج الفواكه والأرز وغير ذلك بها 250 ألف فلاح يزرعون ما مساحته 3.7 ملايين فدان.
يبقى أن التجربة الكوبية في الزراعة العضوية انتقلت من الطور الميداني إلى الطور الأكاديمي؛ حيث أصبح لها أكثر من 200 مركز، إضافة إلى 173 مركزًا تنتج مواد سيطرة بيولوجية (زراعية) بكميات تصل إلى 93 ألف طن في العام، كما توجتها بإنشاء معهد حماية المحاصيل (أنساسيف) يتدرب عليه زراعيون من المكسيك وكولومبيا وأسبانيا والبرازيل وكوستاريكا وجاميكا وإكوادور وغيرها.
كما أن كوبا استطاعت -وفقًا لتقرير لـ"إنتربرس وورلد ينوساجنس"- أن تنتزع إشادة من البنك الدولي بمستوى التعليم والصحة؛ حيث انخفضت وفيات الأطفال عام 2001 إلى 2 في الألف، وأصبحت على قدم المساواة مع الدول الغربية في مجال رعاية الأطفال، ووصلت بمعدلات التعليم إلى مدرس لكل 12 تلميذا ابتدائيا، وهو معدل مماثل لما وصلت إليه السويد، وبالخدمة الطبية إلى 5.3 أطباء لكل ألف مواطن، وهي من أعلى النسب في العالم.
انتهى كلام الشيخ سلمان العودة


الطريق إلى فوهة النفق
الجهاد بين الموت والحياة
ما إن تبدُ في الأفق مواجهة عسكرية في قُطر إسلامي يشهد اعتداء أو غزوًا واحتلالا.. حتى تبادر الشعوب الإسلامية بالحديث عن "الجهاد "، ويتحمس كثير من الشباب للحصول على أكبر جائزة وأكرم نهاية في أشرف ساحة، وهي بوادر لا شك إيجابية، وتدل دلالة واضحة على أن الحياة بدأت تدب في الأمة، وبدأت تستشعر الخطر القادم الذي لا يبقي ولا يذر، وبدأت تدرك في الوقت نفسه أنها أمة واحدة، إلا أن الأمر يحتاج رغم ذلك إلى وقفات لا بد منها:
إن الجهاد بالنفس هو الرد الطبيعي والموقف الذي لا بديل عنه في حالات الغزو والاحتلال، تلك الحالات التي تستوجب النفرة العامة في القطر المحتل، بل ومن الواجب الذي لا يسقط الإثم إلا به نفرة الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها دعمًا وعونًا ومساعدة بالخبرات العسكرية المدربة عند الحاجة إلى ذلك وبالمال والفكر والكلمة والدعاء في كل الأحوال.
إن للجهاد في الإسلام مفهومًا واسعًا، وهو -كما يفسره العلماء بأنه "بذل الجهد أو تحمل الجهد البدني والنفسي والعملي من أجل الدفاع عن الدين حتى تكون كلمة الله هي العليا". وهو يبدأ بجهاد النفس، ثم جهاد الشيطان، ثم جهاد الظلم والفساد في المجتمع، ثم جهاد الكفار والمنافقين.
وقد قسم الإمام ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" الجهاد إلى ثلاث عشرة مرتبة: أربع منها لجهاد النفس، واثنتان لجهاد الشيطان، وثلاث لجهاد الظلم والفساد والمنكر في المجتمع، وأربع لجهاد الكفار والمنافقين بالأيدي والألسنة والأموال.
ويسوق الدكتور عبد العزيز بن ناصر الجليل في كتابه "التربية الجهادية في ضوء الكتاب والسنة " توضيحا للمعنى الشامل للجهاد فيقول: "عرف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الجهاد تعريفًا عامًا، قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع -وهو القدرة- في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق". وقال أيضا: "... وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان".
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان ما هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر -وهو نشر التوحيد- والنهي عن المنكر الأكبر -وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به-، وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية.
ويبين الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه؛ فيقول: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا؛ فهم الأعلون في الدنيا والآخرة.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها؛ فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدعوة والبيان، والسيف، والسنَانِ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده. ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا.
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان: 51-52). فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغ القرآن. وكذلك جهادُ المنافقين إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة: 73).
فجهادُ المنافقين أصعبُ من جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثة الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا. ولما كان من أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند من تُخاف سَطوته وأذاه، كان للرسلِ -صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ- مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه.
ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : "المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه" كان جهادُ النفس مُقدَّما على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلا له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولا لتفعل ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويُحارِبها في الله.. لم يمكنه جهادُ عدوه في الخارج؛ فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله؟ بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوه حتى يُجاهد نفسه على الخروج "
جهاد شامل
وإذا أدركنا أن القتال أحد أبرز معاني الجهاد ، وأن عدم قدرة الأمة في وقت من الأوقات أو عدم قدرة طائفة منها على القتال المباشر مع الأعداء لا تسقط عنها فرضية الجهاد بمفهومه الشامل والواسع.. ذلك المفهوم الذي يتسع لكل جهد بالغ يستهدف الدفاع عن أمته أو إعادة بنائها وتشكيلها، في أي مجال سواء كان اقتصاديًا أو تربويًا أو إعلاميًا، أو تعليميًا أو علميًا وتقنيًا، خاصة إذا أدركنا أن البناء الصحيح في المجالات المذكورة وغيرها مستهدف من قوى الاستعمار التي تحرص كل الحرص على أن تظل هذه المجالات والأطر في مساحات التخلف والتراجع، ولا شك أن السباحة عكس التيار وبذل المحاولات لإعادة البناء في ظل الأزمات والضغوط هي من أبواب الجهاد الواسعة التي يأثم من تأخر عن تلبية متطلباتها.
ولعل من أخطر ما يصيب الأمة -وخاصة الشباب- بالإحباط هو ذلك الفهم الذي يقصر الجهاد على القتال؛ فما إن انهزمت الأمة في جولة من جولات القتال المباشر أو عجزت عن المقاومة العسكرية في وقت من الأوقات حتى يشعر الجميع بالإحباط وعدم القدرة على العمل؛ ظنًا منهم أن الهزيمة العسكرية هي نهاية المطاف..
إلا أننا إذا أنصفنا بمراجعة أنفسنا، وتعرفنا على أسباب الهزيمة وجدناها نتيجة طبيعية لترك الجهاد الشامل بمفهومه الواسع في كافة مجالات الحياة إعلاء لدين الله ورغبة في إعادة بناء الأمة على تقوى من الله ورضوان؛ مما أفضى إلى واقع متخلف على كافة المستويات، بل إن توقف الهزيمة على ما هو قائم لطف من الله فيما جرت به المقادير وما استوجبته سنن الله الغلابة التي لا تجامل أحدًا ولا تحابي أمة. حتى إنه جال بخاطري ونحن نتجرع عددًا من الهزائم في ميدان النزال والقتال أنه لو قدر وانتصرنا رغم تخلفنا الإيماني والحضاري والاقتصادي والعلمي والسياسي ربما كان ذلك فتنة للذين آمنوا، وفتنة للبشرية كلها عندما ترى سنن الله وقد تخلفت عن مسارها.
وربما يتعجب البعض عندما نقول: إن هذه الهزائم تدعم الإيمان بالله؛ لأنها تنسجم مع منهجه سبحانه وتنسجم مع سننه في الكون، وإن القلب المؤمن الذي يدرك هذه الحقيقية عليه أن يعود إلى سنن الله يدرسها، ويتعرف عليها، ويجهد نفسه في العمل لها، ويستنفر أمته لتستأنف الجهاد الشامل بمفهومه الواسع في كافة المجالات.. خاصة أنه ليس هناك سبيل آخر غير هذا السبيل، وليس هناك طريق يوصل إلى النتائج المرجوة غير ذلك الطريق.
إن هذا الجهاد الشامل الذي ينتظم الحياة كلها في كافة مناحيها ومجالاتها وأشكالها هو عينه الجهاد الذي عناه الإسلام ورغب فيه وأمر به، وهو الذي يجعل حياة المسلم كلها جهادًا في سبيل الله، ويجعل موته أيضًا في سبيل الله، سواء مات في معركة حربية أو على فراشه أو ممسكًا بقلمه أو حاسوبه أو منجله.
البناء تحت القصف
يقسم خبراء الإدارة خريطة العمل الإداري في أي مؤسسة إلى أربعة مربعات:
الأول- مربع الأزمات والضغوط.
الثاني- مربع التخطيط والتفكير والإبداع.
الثالث- مربع الخداع.
الرابع- مربع الإحباط.
ويقصد بمربع الأزمات والضغوط هو تلك المساحة التي يقوم بها المديرون والإداريون في أي مؤسسة في التعامل مع الأزمات العارضة أو الكوارث المفاجئة والضغوط الوقتية.
أما مربع التخطيط والإبداع فهو المساحة الإدارية التي يمكث فيها المديرون والإداريون للتخطيط للمستقبل، وابتكار الأساليب المثلى للتعامل مع الواقع.
والمربع الثالث هو الذي ينشغل فيه المديرون والإداريون بالأمور الفرعية أو غير المهمة على حساب الأهم والأولى.
والمربع الرابع هو الإحباط، ويصل إليه المديرون والإداريون إذا ما ركزوا اهتمامهم وكرسوا جهودهم للبقاء والمكث أكبر وقت ممكن في المربع الأول والثالث، ولا شك أنهم في هذه الحالة يصابون بالإحباط وفتور الهمة عن العمل.
ولكن بأي مناسبة نسوق الحديث عن هذا الأمر الإداري؟ وهل هناك وجه شبه بينه وبين حال الأمة أو الطريقة التي ندير بها أنفسنا؟!
وبشيء من إمعان النظر نجد أنفسنا كأمة أمام واقع مماثل لما يحدث في شركة أو مؤسسة تدار بطريقة فاشلة؛ فما إن برزت في الأفق أزمة حتى تصورنا أن الأمة بكافة هيئاتها ومؤسساتها وجماعاتها ينبغي أن تنصرف إلى ذلك الحدث وتفرغ يدها مما سواه.
والواقع يؤكد أن العدو ينجح في استنفاد قوانا عندما يدرك أن القوى الفاعلة في الأمة لو شغلت نفسها وكرست جهودها في الأزمة فلا شك أنها ستظل عاجزة عن إعادة هيكلة مجتمعاتها أو بناء قدراتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتنموية على نحو صحيح، وهي بذلك ستظل عاجزة عن المواجهة أو تحقيق النصر على المدى القريب. فقوى المجتمع الفاعلة مستنفرة على الدوام في مربع إطفاء الحرائق أو الأزمات والضغوط..
ولا نعني أن الوضع الأمثل يكون في ترك هذا المربع فارغًا، ولكن في توزيع الطاقة بصورة متناسبة بين من يتابع الأزمات ويسدد ويقارب ومن يتحرك لإعادة البناء والتكوين على كافة المستويات الإيمانية والتربوية والعلمية والتقنية والاقتصادية والتنموية ومعه معطيات الواقع وآفاق المستقبل، وإلا كانت النتيجة أن تجتمع قوى الأمة الفاعلة في مربع الضغوط والأزمات، وما إن أسفرت الجولة عن هزيمة للأمة حتى أصيب الجميع بالإحباط، وشعر الكافة بعدم القدرة على استئناف العمل والجهاد في كافة الميادين التي تركتها قوى الأمة الفاعلة، وتفرغت للأزمات التي وإن كانت تمثل خطورة حالة ومباشرة فإن الخطر الأكبر هو إهمال البناء والتكوين الشامل.. إننا بحاجة إلى العمل والبناء الجاد تحت القصف وفي وقت الأزمات، وهذا هو الحل الوحيد.
ماذا نفعل بعد أن أدركنا أبعاد الأزمة التي تمر بها أمتنا، وبعد أن أدركنا أنه لا وقت للقعود أو التكاسل، وبعد أن أدركنا أن اليأس لا يصنع النصر أو يقود إليه، وبعد أن أدركنا أن أممًا غيرنا مرت وتمر بمحن مثلنا ولكنها تقاوم بكل ما أوتيت من قوة؟
ما هي المهام والأدوار التي يتحتم علينا أن نقوم بها ونتسابق في أدائها؟
إذا أردنا أن نبدأ بداية صحيحة، ونتقدم إلى أهدافنا بخُطا حثيثة، فأول ما نسعى إليه ونضعه في سلم أولوياتنا هو القضاء على التخلف بكافة أشكاله وصوره، ولنُحدث تنمية حقيقية وتقدمًا ملموسًا مقابل كل شكل من أشكال التخلف. إننا بحاجة للقضاء على:
- التخلف الإيماني.
- التخلف الإدراكي والمعرفي.
- التخلف العلمي والتقني.
-التخلف الإعلامي.
ولكن كيف يحدث ذلك؟
كل ما ذكرنا من أنواع التخلف يحتاج إلى جهود كبيرة في إحداث تنمية حقيقية في مجاله ، إننا بحاجة إلى :
تنمية إيمانية:
- إننا بحاجة لأن نقضي على أشكال التخلف الإيماني الذي أصاب أمتنا، وشكل ظاهرة تستوجب الدراسة وتحتاج إلى تأمل، وبحاجة إلى أن نُحدث تنمية إيمانية تتمثل في: - عمل حملات مكثفة بين أفراد المجتمع والأجيال الجديدة للعودة الصادقة إلى حقائق الإيمان, وتغذية روافده من الإقبال على الطاعات والتشجيع على ارتياد المساجد وعمل حلقات التلاوة وتعلم القرآن حفظًا ودراسة وترتيلا.
- تربية الحس الإيماني والخشية من الله خاصة لدى الأجيال الجديدة.
- نشر الكتاتيب ومراكز تحفيظ القرآن بجهود شعبية بحتة مهما تراجع الدور الرسمي في هذا الاتجاه.. وابتكار الأساليب الجديدة لتخطي أي قيود على تحفيظ القرآن الكريم, ويكفي أن نتذكر ما حدث في الأقطار الإسلامية تحت الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق، وكيف تمكن نفر غير قليل من حفظ القرآن الكريم في وقت كان فيه المصحف من الممنوعات التي تستوجب الاعتقال لحاملها!
وعندما نستعرض هذا النموذج ندرك أن موروثاتنا الإيمانية في المنطقة العربية منعت تدهور الأمور إلى هذا الحد، وأن أمامنا مجالات واسعة ومساحات شاسعة للعمل من أجل الاعتناء بحفظ القرآن الكريم, سواء من خلال عمل وإنشاء مراكز تحفيظ شعبية أو مطالبة جموع أولياء الأمور لأصحاب المدارس الخاصة بتخصيص أوقات خارج المناهج الدراسية لتحفيظ القرآن الكريم، أو من خلال الدروس الخاصة التي ينبغي أن تسير جنبًا إلى جنب مع ما تتكبده الأسر من إنفاقات باهظة على الدروس الخاصة في المواد الدراسية المقررة.
- تشجيع تحصيل العلم الشرعي من خلال مؤسسات متخصصة أو من خلال دورات تدريبية نوعية تسير جنبًا إلى جنب مع الدورات المتخصصة في الحاسوب واللغات الأجنبية التي زاد الإقبال عليها. والسؤال: لماذا لا نجد دورات تدريبية في تنمية المهارات اللغوية والبلاغية وتكوين أسس الثقافة الإسلامية المتنوعة سواء في التاريخ الإسلامي أو الفقه أو علوم الحديث والتفسير لتسير جنبًا إلى جنب مع دورات الحاسوب واللغات؟
يمكن لما ذكرنا من دورات تدريبية متخصصة أن تؤهل عددًا من الشباب للقيام بدور تربوي متميز في تنشئة وتربية الأجيال الجديدة, وبهذا يمكن أن تنشأ وظائف ومهن جديدة تحتاج إلى تأهيل علمي مقبول من خلال هذه الدورات؛ لتعود وظيفة "المربي" التي عرفها تاريخنا الإسلامي؛ وذلك بأن يعهد الآباء أبناءهم إلى ثلة من الشباب المؤهل علميًا وشرعيًا؛ لتربيتهم وتأديبهم وتعليمهم، وهو ما يمكن أن يعالج الخلل الحادث والمتوقع حدوثه خلال المرحلة القادمة من خلو مناهج التدريس الرسمية من المقررات والمناهج الشرعية والتراجع المذهل في جرعة الثقافة الإسلامية, إضافة إلى الهشاشة واللبس المضمر فيما تبقى من مناهج إسلامية، والذي قد يكون ضرره في بعض الأحيان أكثر من نفعه.
- يمكن أن تنشأ مؤسسات اجتماعية جديدة قادرة على تأهيل البنات لتحمُّل أعباء الحياة الزوجية بصورة متوازنة, تجمع بين الأسس والطرق العلمية المناسبة والقيم والأخلاق في إطار الرؤية الإسلامية الشاملة.
وربما يكون من المفيد في هذه الحالة أن يحصل الشباب من الجنسين على دورات متخصصة تضع أقدامهم على بداية صحيحة للحياة الزوجية تحدد لهم ملامح الطريق ومعالمه، وهو ما يمكن أن يكتسب أهمية نسبية عن بعض ما ينفَق في حفلات الأعراس وكثير من المبالغات في نفقات الزواج.
إن هذه الدورات المتخصصة يمكنها أن تؤهل الشباب، وتضع أقدامهم على الأهداف الحقيقية التي ينبغي أن تكون ماثلة أمامهم وهم مقبلون على هذه المرحلة, وتضع أيديهم على مقاصد الشريعة من الأسرة كأحد مكونات المجتمع التي يمكن أن تساهم بصورة فاعلة وكبيرة في التنمية الإيمانية والقضاء على التخلف عن ركب الإيمان.
تنمية إداركية
المعضلة الكبرى التي تواجه الأمة وتشكل مدخلا واسعًا للتخلف الشامل هو تخلفها الإدراكي والمعرفي؛ فقد نجحت البعثات الثقافية المبكرة التي شهدتها الأمة في الحقبة الاستعمارية الأولى, ومن بعدها وسائل الإعلام بمختلف صورها وأشكالها في إحداث تأثيرات واسعة على مدركات الأمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق