الاثنين، 17 أكتوبر 2011

خامسا: تحديات وطنيةرقم 1

المبحث الأول: الوحدة العربية
المبحث الثاني: الحرية
المبحث الثالث: الإعلام
المبحث الرابع: القضية الفلسطينية
المبحث الخامس: الخلافة الإسلامية
المبحث الأول
الوحــدة العربيـــة
مخطط البحث
تمهيد: لماذا الحديث عن الوحدة العربية؟
أولاً- العرب وأصولهم.
ثانياً- الملك العربي: 1ً- الملك باليمن ومراحله الخمسة.
2ً- الملك بالعراق.
3ً- الملك بالشام.
4ً- الإمارة بالحجاز.
ثالثاً- العرب في العهد النبوي وأول وحدة في التاريخ.
رابعاً- الوحدة في عهد الراشدين:
1ً- حروب التحرير والوحدة (حروب الردة).
2ً- توحيد العراق والشام والجزيرة في عهد الصديق.
3ً- انضمام مصر وليبية في عهد الفاروق.
4ً- قيام الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج ضمن إطار الوحدة الإسلامية.
خامساً- واقع الوحدة العربية في القرن العشرين:
المرحلة الأولى: النصف الأول من القرن العشرين.
المرحلة الثانية: النصف الثاني منه.
سادساً – تطور مفهوم الوحدة العربية لدى البعث العربي قبل الحكم وبعده.
سابعاً- الحركة الإسلامية والوحدة العربية.
ثامناً- الإخوان المسلمون في سورية وقضية الوحدة العربية.
تاسعاً- النموذج الصلاحي للوحدة.
عاشراً- الوحدة العربية اليوم:
1- معوقات الوحدة العربية.
2- الطريق إلى الوحدة العربية اليوم.
3- بيننا وبين دعاة القومية.
حادي عشر– ملخص البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الوحدة العربية
تمهيد - لماذا الحديث عن الوحدة العربية؟
الحديث عن الوحدة العربية هو من مفرزات هذا القرن، وكان من أهم طروحات دعاة القومية العربية ويكاد يكون القاسم المشترك بينهم جميعاً، فإذا كان شعار البعث العربي الاشتراكي هو الوحدة والحرية والاشتراكية، فشعار القوميين العرب وحدة وتحرر وثأر، والاتحاد الاشتراكي المصري ينطلق من الحرية والاشتراكية والوحدة، والحركات التي قامت في العهد العثماني طرحت كلها شعار وحدة الأمة العربية، وكان أساساً من مباحثات الشريف حسين ومكماهون، وحزب عصبة العمل القومي يقول: (إننا نريد وحدة سورية، فوحدة عربية شاملة ذات كيان سياسي مستقل محترم) وهو أول حزب قومي في عهد الانتداب الفرنسي عام 1933، أما قبل الانتداب فكان حزب العربية الفتاة هو الذي حمل هذه الراية في العهد العثماني وقد تأسس عقب الانقلاب العثماني عام 1908 بأربعة أيام وهدفه (النهوض بالأمة العربية إلى مصاف الأمم الحية) كما تقول المادة الأولى من الدستور) آنذاك لم تكن التجزئة قائمة، وكانت الأمة العربية كلها ضمن الدولة العثمانية.
وإذا تجاوزنا الأحزاب إلى الدول، فمعظم دساتير الدول العربية تنص على مطلب الوحدة العربية، كما قال القوتلي رئيس سورية في عيد الاستقلال الأول: إننا لن نقبل أن يرتفع فوق علم هذه البلاد سوى علم واحد هو علم الوحدة العربية).
ولقد تجذر شعور الوحدة العربية لدى الشباب العربي في كل مكان، من دون أن يتجسد في هذا القرن إلا في وحدات جزئية أو اتحادات إقليمية، لم تمثل طموح العرب ولا رغبتهم في أن يرى العرب في دولة واحدة يرفرف عليها علم واحد.
وشاركت الحركات الإسلامية في هذا المبدأ، ونصت عليها في مبادئها، في الوقت الذي كانت الحركات الإقليمية هي التي تمثل أنظمة الحكم، فقد تحدث الإمام البنا رحمه الله عن الوحدة العربية بصفتها مطلباً وهدفاً من مطالب الإخوان المسلمين وبصفتها نواة للوحدة الإسلامية وكان الصراع قائماً بين دعاة الإسلام في النصف الثاني من هذا القرن حول أولوية الوحدة العربية أو أولوية الدولة الإسلامية، وعندما قامت الوحدة الوحيدة اليتيمة في هذا القرن بين سورية ومصر كان الإخوان المسلمون في سورية من أشد المتحمسين لها وكانت تظاهراتهم في تأييدها تفوق كل التظاهرات، وعندما وقع الانفصال بين جناحي الجمهورية العربية المتحدة، كان الإخوان المسلمون هم الهيئة السياسية الوحيدة التي رفضت التوقيع على وثيقة الانفصال.
الزمن يمر والقرن ينتهي والتجزئة مستمرة، وعرى الوحدة منفصمة، والشعور العربي بالرغبة في الوحدة يطغى ويتنامى.
سيكون حديثنا في هذا البحث لأضخم مشكلات هذا العصر، عن الجذور التاريخية للعرب وللوحدة العربية وإبراز أن الإسلام في التاريخ هو وحده الذي أنشأ الوحدة العربية، وأقامها واقعاً حياً على الأرض وهو الذي حافظ عليها من الاندثار طيلة أربعة عشر قرناً، وهو اليوم يحمل هذا اللواء، وهو الوحيد القادر على توحيد هذه الأمة نواة لوحدة الأمة المسلمة، {وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (سورة الأنفال من الآية 63).
أولاً- العرب وأصولهم:
أما أصول العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام، بحسب السلالات التي ينحدرون منها:
1- العرب البائدة: وهم العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وسواهما.
2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان، وتُسمى بالعرب القحطانية.
3- العرب العدنانية: قال ابن إسحاق: فمن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام.
العرب العاربة: وهي شعب قحطان فمهدها بلاد اليمن..
( قال ابن هشام: فالعرب كلها من ولد إسماعيل وقحطان، وبعض أهل اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، ويقول إسماعيل أبو العرب كلها).
وروى الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي رضي الله عنه قال: وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله: وما سبأ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحمير ومذحج وأنمار وكندة، فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة .
وهكذا نرى أن الغساسنة في الشام والمناذرة في العراق من أصل واحد وينتمون إلى سبأ ومعظم قبائل اليمن كذلك، والأوس والخزرج في المدينة من أولاد عمرو بن عامر من اليمن.
ثانياً- الملك العربي:
لقد قام للعرب دويلات موزعة محدودة في اليمن والشام والحيرة والحجاز:
- الملك في اليمن: وقد مر بمراحل متعددة:
الأولى: في عهدهم الزاهر أيام السد: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور}.
ويقدِّر المؤرخون أن هذا الأمر كان قبل قرابة سبعة قرون قبل الميلاد، واستمر ثلاثة قرون بعده.
الثانية: وهي خلال عهدهم الزاهر أيام الملك سليمان عليه السلام، وقصة ملكة سبأ مذكورة في القرآن وكانوا قد انحرفوا عن التوحيد، وصاروا يعبدون الشمس، {فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إن وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون}.
الثالثة: بعد أن انهار السد، وتفرق شملهم في كل صقع: {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين، وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك، وربك على كل شيء حفيظ}.
ويقدر المؤرخون أن هذا الأمر قد تم قبل ثلاثة قرون من البعثة النبوية، وهي صورة لحضارة قامت على أساس العقيدة، وانهارت حين خرجت عن منهج الله بعد أن عاشت قروناً طوالا.
الرابعة: وهي مرحلة استيلاء أبي كرب تبان أسعد على ملك اليمن، وامتداد نفوذه حتى وصل إلى مكة والمدينة، وهو الذي ساق الجبرين من يهود المدينة إلى اليمن، وعمَّر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر, وهو الذي أدخل النصرانية إلى اليمن، وجاء ابنه حسان الذي امتد نفوذه إلى العراق وبعده أخوه عمرو.
الخامسة: مرحلة دخول النصرانية إلى نجران، والتي صادفت وجود ذي نواس على رأس الحكم، الذي كان يهودياً، وسار بجنوده فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين القتل وبين الدخول في دينه، فاختاروا القتل، وقصة الغلام والراهب والساحر والملك التي رواها الإمام مسلم والترمذي تدل على عظمة هؤلاء المؤمنين، وثباتهم على الحق في وجه الطاغية ذي نواس.
وحكى الله قصتهم في قوله سبحانه: {قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد، إن الذين فتنووا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق}.
السادسة: انهيار حكمهم بعد ذلك، وابتداء استيلاء الأجنبي على أرضهم، حيث استولى الأحباش عليها ثأراً من ذي النواس باسم النصرانية عام 525 م، وبقوا على ذلك حتى استعادوا استقلالهم بمعونة الفرس بقيادة معد يكرب بن سيف بن ذي يزن الحميري، الذي اغتيل من الحبشة الذين أبقاهم لخدمته، وبموته انقطع الملك عن بيت ذي يزن، وولى كسرى غلاماً فارسياً على صنعاء، وجعل اليمن ولاية فارسية، فلم تزل الولاة من الفرس تتعاقب على اليمن حتى كان آخرهم باذان الذي اعتنق الإسلام سنة 638 م، وبإسلامه انتهى نفوذ الفرس على اليمن وبلادها.
ب- الملك بالحيرة:
في عهد ملوك الطوائف – قبل قرنين من الميلاد – هاجر القحطانيون وسكنوا ريف العراق وتبعهم بعض العدنانيين، وعندما استعاد الفرس قوتهم عام 226م على عهد أردشير استولوا على العرب المقيمين على تخوم ملكه، ورأى أنه لا يستطيع أن يحكم العرب ما لم يجعل عليهم رجلاً منهم له عصبة تؤيده وتمنعه، وكان عمرو بن عدي أول ملوك الحيرة، وتتابع الملوك بعده، وكان أشدهم النعمان بن المنذر الذي غضب عليه كسرى بسبب وشاية دبرها له عدي بن زيد العبادي، وكانت وقعة ذي قار المشهورة بين العرب والعجم حيث انتصر فيها العرب، وكان ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو نعيم عن سعيد عن أبيه عن جده أن بكر بن وائل قدموا مكة في الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، إيتهم وأعرض عليهم، فأتاهم فعرض عليهم، فقالوا: حتى يجيء شيخنا حارثة، فلما جاء قال: إن بيننا وبين الفرس حرباً، فإذا فرغنا بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول، فلما التقوا بذي قارهم والفرس، قال لهم شيخهم: ما اسم الرجل دعاكم إلى ما دعاكم إليه, قالوا: محمد، قال: فهو شعاركم, فنُصروا على الفرس, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بي نصروا).
وكان ذلك تحقيقاً لموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى مع وفد شيباني وفيهم هانئ بن قبيصة والنعمان بن شريك والمثنى بن حارثة ومفروق بن عمرو (من قادة ذي قار) قال لهم: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ قالوا: اللهم لك هذا.
فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً حتى خرج على أصحابه فقال لهم: احمدوا الله كثيراً فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكرهم وبي نصروا).
وولى كسرى بعده (أي النعمان) على الحيرة حاكماً فارسياً، ثم أعاد الملك إلى آل لخم عام 632م حتى تولى المنذر الملقب بالمغرور، ولم تزد ولايته على ثمانية أشهر حتى قدم خالد رضي الله عنه بعساكر المسلمين.
جـ- الملك بالشام:
( لما خرج عمرو بن عامر إلى اليمن مع قومه تفرقوا في البلدان فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر ونزلت الأوس والخزرج المدينة، ونزلت خزاعة مكة، ونزلت أزد السراة ونزلت أزد عمان، ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه).
وانتهت ولاية الضجاعمة من قضاعة على الشام بعد قدوم آل جفنة (الغسانييين) إليها، فوَّلتهم الروم ملوكاً على عرب الشام، وكانت قاعدتهم دومة الجندل، ولم تزل تتوالى الغساسنة على الشام بصفتهم عمالاً لملوك الروم حتى كانت وقعة اليرموك سنة 13هـ وانقاد للإسلام آخر ملوكهم جبلة بن الأيهم الغساني في عهد أمير المؤمنين وهو الذي ارتد وذهب إلى قيصر عندما أراد عمر رضي الله عنه أن ينتصف للأعرابي منه وقال له: الإسلام سوى بينكما).
العرب العدنانية: وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معه، ومنه حفظت العرب العدنانية أنسابها، وعدنان هو الجد الحادي والعشرون في سلسلة النسب النبوي، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب فبلغ عدنان يمسك ويقول: (( كذب النسابون)) فلا يتجاوز وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان وإسماعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون.
وولد عدنان رجلين: معد بن عدنان، وعك بن عدنان.
قال ابن هشام: فصارت عك في داك اليمن، وتفرقت بطون معد من ولده نزار، فكان لنزار أربعة أولاد تشعبت منهم أربع قبائل عظيمة: إياد وإنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذان كثرت بطونهما واتسعت أفخاذهما.
فكان من ربيعة: أسد، وعنزة، وعبد القيس، وابنا وائل بكر وتغلب، وحنيفة وغيرها.
وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيس عيلان بن مضر، وبطون إلياس ابن مضر.
فمن قيس عيلان: بنو سليم، وبنو هوزان، وبنو غطفان، ومن غطفان: عبس، وزبيان، وأشجع وغنى، ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة، وهذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة، بطون كنانة من خزيمة، ومن كنانة قريش وهم أولاد فهر بن مالك بن النضرين بن كنانة.
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى: من أشهرها جمح وسهم وعدي وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي، وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي، وكان من بن عبد مناف أربع فصائل عبد شمس، ونوفل والمطلب وهاشم، وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وسلم).
( قال صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).
ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا في أنحاء شتى من بلاد العرب، متتبعين مواقع القطر ومنابت العشب فهاجرت عبد القيس وبطون من بكر بن وائل وبطون من تميم إلى البحرين فأقاموا بها، وخرجت بنو حنيفة إلى اليمامة، فنزلوا بحجر قصبة اليمامة، وأقامت سائر بكر بن وائل في طول الأرض من اليمامة إلى البحرين إلى سيف كاظمة إلى البحر فأطراف سواد العراق فهيت، وسكنت بنو تميم ببادية البصرة، وأقامت بنو سُليم بالقرب من المدينة من وادي القرى إلى خيبر إلى شرقي الجبلين إلى ما ينتهي إلى الحرة، وسكنت ثقيف بالطائف، وهوازان في شرقي مكة بنواحي أوطاس وهي على الجادة بين مكة والبصرة، وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة بينهم وبين تيماء بحتر من طيء، وبينهم وبين الكوفة خمس ليالٍ.
وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران، وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقام بمكة وضواحيها بطون قريش، وكانوا متفرقين لا تجمعهم جامعة حتى نبغ فيهم قصي بن كلاب، فجمعهم وكوَّن لهم وحدة شرفتهم ورفعت من أقدارهم).
د- الإمارة بالحجاز:
بقي إسماعيل عليه الصلاة والسلام وولداه ثاب ثم قيدار على إمرة مكة، ثم رجع أمر مكة إلى مضاض بن عمرو الجرهمي جدهما، وبقي الأمر في جرهم قرابة عشرين قرناً من الزمان، ثم غلبتهم خزاعة بعد بغيهم وصار أمر مكة لها حيث استمرت ثلاثمائة عام إلى أن جاء قصي بن كلاب الذي تزوج بنت حليل بن حبشة الخزاعي، وانتقل أمر مكة له بعد حرب عنيفة احتكموا بعدها ليعمر بن عوف أحد بني بكر، فقضى بأن قصياً أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة، وكان هذا في القرن الخامس للميلاد، ونظم قصي بعبقريته أمر مكة وقطعها رباعاً في قومه، وأسس دار الندوة، وكانت مجمع قريش وفيها تُفْصَل مهام أمورها وتفض مشاكلها, وجمع مآثر قومه بيده اللواء فلا تعقد الحرب إلا بيده, والحجابة فلا يفتح باب الكعبة أحداً إلا هو, وسقاية الحاج، حيث يملأ حياض مكة بالماء، ويقذف التمر والزبيب ليشرب من شاء أن يشرب، ورفادة الحاج وهو طعام يصنع للحجاج على طريقة الضيافة، ثم توزعت قريش هذه المآثر، فكانت السقاية والرفادة لبني هاشم، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، حتى جاء الإسلام فأبقى الحجابة لهم كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( ألا وإن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مال أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج)).
ثالثاً- العرب في العهد النبوي:
أيام العرب: لقد كان تاريخ الجاهلية هو تاريخ الصراعات والحروب بين القبائل العربية تتمثل أمجادها فيها، (ماعدا ذي قار فكل فخار العرب في ذبح بعضهم بعضاً فيما بينهم, والشعر العربي يحي قصة هذه الأمجاد, وكما قال المغيرة بن شبعة: ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً.
فقد كان هناك عرب موزعون في أصقاع الأرض وأصلهم وموطنهم الرئيسي في شبه الجزيرة العربية الحجاز ونجد واليمن، وتوزعوا إلى الشام والعراق، لكن لا يجمعهم جامع على الإطلاق، فكان هناك ملوك محليون، لكن لم تكن هناك وحدة عربية على الإطلاق، ولم تكن قائمة في ذهن العرب، فكانت القبلية أو الإقليمية هي التي تحكمهم منذ عشرين قرناً حتى عهد النبوة.
وأكرم الله هذه الأمة بالإسلام وبالقرآن وبرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خير كتبه وخير رسالاته، وخيرة الله تعالى من خلقه، وكانوا كما قال الله تعالى فيهم: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.
وقوله عز وجل: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} .
التقوا على شخص قائدهم ونبيهم وحبيبهم محمد صلى الله عليه وسلم وعندما كانت حجة الوداع قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وأنزل الله تعالى على نبيه قوله عز وجل {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..}.
عندما نزلت هذه الآية كانت الجزيرة العربية كلها في وحدة كاملة يحكمها سيد واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوحدة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً على الإطلاق، وقد اكتملت في عام الوفود العام التاسع للهجرة حيث جاءه زعماء العرب وقادتهم من أقصى الأرض العربية يبايعونه على الإسلام.
لقد كانت حدود الدولة النبوية من الفرات وخليج البصرة شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً ومن تبوك شمالاً إلى بحر العرب في عدن جنوباً، وكانت المدينة العاصمة، وله ولاته في أصقاع هذه الأرض وبلغ عدد ولاته صلى الله عليه وسلم قرابة عشرين والياً.
لقد كانت اليمن ثلاث ولايات: الجند ومخالفيها، وصنعاء ومخالفيها، وحضرموت ومخالفيها، تتابع عليها عشرة ولاة من الصحابة، بينما توزع الولاة الباقون على تيماء ومكة وعُمان والبحرين والطائف والحبشة وقضاعة والشام ونجد.
وهؤلاء غير زعماء القبائل الذين أجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبقى لهم زعامتهم وإمرتهم على قومهم بعد أم أسلموا مثل أكيدر بن عبد الملك على دومة الجندل (على خلاف في إسلامه) ويحنة بن رؤية على إيلات، وعدي بن حاتم على طيء، وصرد بن عبد الله الأزذ، والأقرع بن حابس، وقيس بن عاصم على تميم وغيرهم.
رابعاً- الوحدة العربية في عهد الراشدين: من المحيط إلى الخليج:
أما الوحدة العربية التي يتغنى بها العرب اليوم من المحيط إلى الخليج، فهذه لم تقع في تاريخ العرب إلا في عهد الراشدين رضوان الله عليهم، حيث وصل عقبة بن نافع إلى المحيط الأطلسي في أقصى المغرب العربي ووصل عمرو بن العاص إلى أراضي النوبة في السودان، وامتدت الفتوحات في الشرق فلم تقف عند حدود الأرض العربية وخليج البصرة إنما مضت في الشرق حتى اقتحمت بلاد فارس وما بعدها، وقد مرت عملية الوحدة بمراحل متعددة:
آ- حروب التحرير والوحدة (حروب الردة):
الطور الأول: وهي حروب عربية – عربية، حيث انتفض معظم العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي في المصطلح الإسلامي حروب الردة، وفي المصطلح القومي حروب الردة كذلك، فقد حاول زعماء القبائل أن يعودوا إلى العهد القبلي، فكل قبيلة دولة، وأن بقي التفرق والتمزق هو الأصل كما هو الحال في امتداد القرون الطويلة، لكن الإسلام العظيم الذي دخل في قلوب المؤمنين الصادقين، وعظمة القيادات التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاعت في بحر من الأهوال والدماء، وفي عزم وتصميم لا يقبل الوهن استطاعت أن تعيد للأمة وحدتها وأن تعيد إليها دينها، تقول عائشة رضوان الله عليها:
لما بويع أبو بكر رضي الله عنه وجمع الأنصار في الأمر الذي اقترفوا فيه وقال: ليتم بعث أسامة وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم، وكثر عدوهم فقال له الناس إن هؤلاء جل المسلمين والعرب على ما ترى قد انتفضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، فقال له أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة).
وكان خالد رضي الله عنه هو البطل المجلي في إعادة الوحدة إلى جزيرة العرب، فقد هزم الكذابين المتنبيئين طليحة بن خويلد الأسدي، ومسيلمة بن حبيب الحنفي، غير أن طليحة أسلم وحسن إسلامه، وكانت معركة اليمامة من أعنف المعارك التي خاضها المسلمون إذ قتل منهم ما ينوف عن ألف – وهو رقم أكبر من كل شهداء المسلمين منذ أن جاء الإسلام إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي قتل فيه من بني حنيفة عشرة آلاف مقاتل، وقتل الأسود العنسي المتنبئ الثالث في اليمن وعادت الجزيرة لوحدتها مرة أخرى.
الطور الثاني: حرب المسلمين في العراق: وكان على رأسها خالد بن الوليد رضي الله عنه، والمثنى بن حارثة الشيباني – والقعقاع بن عمرو التميمي، وهي حرب عربية – عربية فارسية، حيث حارب الفرس ابتداءً بالعرب التابعين لهم، ثم بقياداتهم وجنودهم، وحرَّر خالد رضي الله عنه العراق العربي كله.
وعلى رأسه الحيرة مركز دولة المناذرة، وانضمت العراق العربية كلها إلى وحدة الجزيرة العربية.
الطور الثالث: حرب المسلمين في الشام، وكان على رأسها يزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة عامر ابن الجراح وعمرو بن العاص، وانضم إليهم خالد رضي الله عنهم، وكانت المعركة الفاصلة في اليرموك وانضمت دمشق بعدها إلى المسلمين، وأعلن هرقل نهايته المحتومة في سورية، فقال بعد هزيمته في اليرموك: سلام عليك يا سوريا سلاماً لا لقاء بعده.
وخلال السنوات الثلاث الأولى وفي بداية خلافة عمر رضي الله عنه انضمت الشام وتحررت من الروم، وأصبحت الوحدة العربية تضم المشرق العربي كله، وكانت هذه كذلك أول وحدة في تاريخ العرب منذ أن كان لهم تاريخ.
وإذا كان لنا أن نتحدث عن بطل لهذه الوحدة العربية بعد الصديق والفاروق لكان خالد رضوان الله عليه الذي قال فيه الصديق: لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد وقال فيه عمر بعد عزله: رحم الله أبا بكر لقد كان أعلم مني بالرجال.
الطور الرابع: حرب المسلمين في المغرب العربي: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، وجعلت الأرطبون نفسه داهية الروم وقائدهم يقول: خدعني عمرو، هذا أدهى العرب، هذا أدهى الخلق، وهكذا لم ينته عهد عمر رضوان الله عليه إلا وكان المغرب والمشرق العربي تحت راية واحدة وفي دولة واحدة وخليفة واحد، وقامت الوحدة العربية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ العرب منذ أن كان لهم تاريخ.
الطور الخامس: توحيد المغرب العربي كله مع المشرق العربي: حيث تم ذلك في عهد عثمان رضي الله عنه على يد عبد الله بن أبي سرح الذي فتح أفريقية وعقبة بن نافع الذي وصل إلى المحيط الأطلسي.
وحتى يتم تعريب أفريقية (وندب عثمان الناس إلى أفريقية، فخرج إليها عشرة آلاف من قريش والأنصار والمهاجرين، وكان عبد الله بن أبي سرح قد صالح بطريق أفريقية جرجير على ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار أو ثلاثمائة قنطار ذهباً) ().
كان هذا في عام سبع وعشرين للهجرة، أي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة عشر عاماً فقط، وتمت بذلك وحدة العرب الكبرى لأول مرة في التاريخ على عهد عثمان رضي الله عنه، وهذا في المنطق القومي العربي، أما في المنطق الإسلامي فسنتحدث عن ذلك في بحث الخلافة الإسلامية، وعن إنهاء امبراطوريتي قيصر وكسرى وتحويل ثلثي المعمور آنذاك إلى أرض إسلامية، وكان قادة الفتح معظمهم من العرب والجيوش التي حملت لواء الإسلام معظمها من العرب، فتقبلت الأمم العروبة والإسلام معاً، ومضت تنصهر في هذا الدين وفي لسان دعاته وقادته.
واستمرت الوحدة العربية ضمن إطار الوحدة الإسلامية حتى انهارت الخلافة العثمانية، وانفصل العرب عنها وقامت فكرة الدعوة إلى الوحدة العربية.
خامساً- واقع الوحدة العربية في القرن العشرين:
لا بد حين ندرس هذا الواقع من التفريق بين مرحلتين:
المرحلة الأولى: النصف الأول من القرن العشرين، والمرحلة الثانية هي النصف الثاني منه.
- المرحلة الأولى: كان أبرز معالمها ثلاثة أمور:
الأول: اتفاقيات سايكس بيكو، الثاني وعد بلفور وقيام إسرائيل، الثالث: قيام الجامعة العربية.
- أما اتفاقيات سايكس بيكو فقد مزقت الوطن العربي ووزعته إلى دويلات متعددة، وقامت باستعمار هذا الوطن، وبذلك حولت النضال من البعد القومي للوحدة، إلى النضال الوطني للتحرير من الاستعمار، وصار الاستقلال هو الهدف الطاغي على هذه المرحلة، وربت الأجيال على تنمية وتعبئة روح الإقليمية في كل قطر.
لقد انتهت الوحدة العربية أو الخلافة العربية التي طالب بها الشريف حسين إلى الصيغة التالية في نص المعاهدة:
( المادة الأولى: إن فرنسا وبريطانيا مستعدتان أن تعترفا وتحميا دولة عربة مستقلة أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيس عربي في المنطقتين (أ) (داخلية سورية) و(ب) (داخلية العراق) المبينتين في الخريطة الملحقة بهذا ويكون لفرنسا في منطقة (أ) وانكلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثانية: يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء (شقة سورية الساحلية) ولانكلترا بالواسطة أو من المراقبة بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثالثة: تنشأ إدارة دولية في المنطقة الحمراء (فلسطين) يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شركة مكة.
المادة الرابعة: تنال انكلترا ما يلي: 1- ميناء حيفا وعكا. 2- يضمن مقدار محدود من ماء دجلة والفرات في المنطقة (أ) للمنطقة (ب) وتتعهد حكومة جلالة الملك من جهتها أن لا تدخل في مفاوضات ما مع دولة أخرى للتنازل عن قبرص إلا بعد موافقة الحكومة الفرنسية مقدماً).
وهكذا آلت الخلافة العربية والدولة العربية الواحدة إلى هذه المزق المبعثرة، وصار الشريف حسين ممثل العرب في الدولة العثمانية لا يمثل إلا شركة مكة.
- وعد بلفور: لقد كانت اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، أما وعد بلفور فكان بعد سنة أي 1917، ونصه: (إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وسوف تبذل مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، وليكن معلوماً أنه لا يُسمح بإجراء شيء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين الآن أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى، وبمركزهم السياسي فيها).
وقد لا نجد في بداية الأمر علاقة مباشرة بين التمزق العربي ووعد بلفور وإقامة الوطن لليهود في فلسطين والذي تحول إلى دولة فيما بعد، لكننا عندما نتصور هذا الإسفين الذي دُق في قلب الوطن العربي وصار جسماً غريباً في قلبه، نعرف كيف استنزفت طاقات الأمة في مكافحته لأدركنا دور هذا العائق الكبير للوحدة العربية، وحتى لا نضرب في التيه، فمؤتمر كامبل يغنينا في هذا المجال عن أي تعليق.
( فقد عقد مؤتمر كامبل في لندن بصورة سرية منذ عام 1905 واستمرت جلساته حتى عام 1907، وكان هدف المؤتمر العمل على تشكيل جبهة استعمارية من الدول الأوربية وهي انكلترا وفرنسا، إيطاليا، اسبانيا، البرتغال، بلجيكا، هولندا، وذلك لمواجهة التوسع الألماني ولتحقيق الأهداف التوسعية في أفريقيا وآسيا، وانتهى المؤتمر إلى:
إن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية إنما يكمن في المناطق العربية لكونها نقطة التقاء بين الشرق والغرب، ولتوفر عدة عوامل لملكها مثل وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال، فإذا توحدت هذه الشعوب فستحل الضربة القاضية على الدول الاستعمارية، وعليه فلا بد من بقاء المنطقة متأخرة ومفككة، والعمل على إنشاء دويلات مصطنعة، كما أكد على ضرورة زرع دولة دخيلة تفصل أفريقية عن آسيا العربية).
وهكذا اتخذت الدول الاستعمارية قراراها بإنشاء إسرائيل.
لقد كانت سوريا تحمل الهم العربي أكثر من غيرها، وكانت بلاد الشام منطلق القومية العربية.
وأكبر دعاة الوحدة فيها، وحين تمزقت بلاد الشام إلى أربع مزق، وراحت تناضل لإنهاء الاستعمار الجاثم على صدرها، ضاعت الوحدة العربية في متاهات الحركات الوطنية التي لا تملك إلا العمل للخلاص من المستعمرين فيها.
الأمر الثالث: قيام الجامعة العربية:
أدركت انكلترا أم الاستعمار في هذا القرن العشرين أن العرب حين يتحررون من الاستعمار سوف يعودون للعمل للوحدة العربية، وخشيت أن يأخذ هذا العمل مداه، ولو تم ذلك لأصبحت إسرائيل في خطر ماحق، ومن أجل ذلك، وحتى تجهض مشروع الوحدة، جاءت ببديل مسخ تعلق العرب بأذياله وهو الجامعة العربية.
( فقد صرح وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن في 24 / فبراير – شباط 1943 بما يلي:
( إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة تقوم بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية).
وأخذت مصر زمام المبادرة فأعلن رئيس وزرائها مصطفى النحاس في 31 ديسمبر – تشرين الثاني 1943 أنه على مصر أن تبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية.. وتم الاتفاق على تأليف جامعة الدول العربية في أعقاب لقاء القاهرة في فبراير 1944، أي بعد سنة من تصريح إيدن، واتفقوا على أن تضم الدول المستقلة فقط).
ولننظر كيف أجهضت الجامعة العربية مشروع الوحدة العربية من خلال عرض ميثاق الجامعة أو أهم بنوده.
وتؤلف جامعة للدول العربية من الدول العربية المستقلة التي تقبل الانضمام إليها، ويكون لهذه الجامعة مجلس يُسمى مجلس جامعة الدول العربية، يمثل به الدول المشتركة في الجامعة على قدم المساواة، وتكون مهمتهم مراعاة تنفيذ ما تبرمه هذه الدول فيما بينها من الاتفاقات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون فيها وصيانة لاستقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل الممكنة وللنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها.
وتكون قرارات هذا المجلس ملزمة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التي يقع فيها خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ فيها الطرفان إلى المجلس لفحص هذا الخلاف، ففي هذه الأحوال تكون قرارات مجلس الجامعة نافذة ملزمة، ولا يجوز على كل حال الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة، ولكل دولة أن تعقد مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام أو روحها، ولا يجوز بأية حال إتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة منها، ويتوسط المجلس في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة وبين أية دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما).
وحين نقف ملياً أمام هذا المشروع وعلاقته بالوحدة العربية نلاحظ ما يلي:
1- تطور مفهوم الاستقلال؛ فبعد أن كان استقلالاً من استعمار الدول الأجنبية، صار استقلالاً عن الدول العربية، فلكل دولة علمها وحدودها ودستورها والمحافظة على استقلالها، وتراب وطنها وصارت هي المحافظة على الحدود بين الدول العربية المجاورة عوضاً عن أن تكون هي إلغاء هذه الحدود.
2- قرارات هذا المجلس ملزمة لمن يقبلها، فلا يستطيع المجلس أن يفرض قراراً على دولة عارضت، وهذا يعني استمرار الانفصال الكامل بين هذه الدول، وإلغاء فكرة الوحدة العربية كاملة.
3- ولا يجوز على كل حال الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة.
4- فالوحدات السابقة في التاريخ إنما كانت تتم عن طريق القوة والغلبة والسيطرة، كما شهدنا أهمها في الوحدة أيام نور الدين وصلاح الدين، وحيث ألغي استعمال القوة للوحدة، فقد ألغيت عملياً الوحدة ولن يتنازل حاكم بمحض إرادته عن سلطاته، ولن تقوم الوحدة عملياً بين هذه الدول.
5- وحيث أن هذه الدول موقعة على ميثاق الأمم المتحدة، والذي ينص على:
( 4- يجب على أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد بالقوة أو استخدامها للاعتداء على سلامة أراضي أي عضوٍ في الهيئة أو استقلاله السياسي أو سلامة أو استقلال أي دولة أو يسلكوا أي سبيل يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة).
لقد تكرس الانفصال التام بين الدول العربية من خلال ميثاقي الجامعة العربية والأمم المتحدة وانحصرت العلاقة بالتعاون والتنسيق بدلاً عن الوحدة وانصهار الكيانات في كيان واحد، وتحولت الوحدة العربية إلى خيال وحلم من أحلام الشعب العربي.
- المرحلة الثانية: النصف الثاني من القرن العشرين:
مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين انتهى سلطان الأحزاب الوطنية التقليدية، وتمكنت الأحزاب القومية من الوصول إلى السلطة والتي جعلت الوحدة العربية الهدف الأول من شعاراتها وفي أول أولوياتها واهتماماتها، ففي عام 1952 قامت الثورة المصرية ضد الملكية، وفي عام 1956 تمكن التجمع القومي الذي يمثل البعث العربي مع الشيوعيين من الانتصار على التيار الإسلامي، وانتهى بقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، ولأن وحدة سورية ومصر كانت هي الوحدة اليتيمة الوحيدة في هذا القرن، وبانتخاب شعبي حرٍ دون اللجوء إلى القوة فلا بد من وقفة عندها ملياً، لنرى أسباب صعودها وأسباب انهيارها.
الوضع السوري عند الوحدة: كان الزعيم شوكت شقير رئيساً للأركان ويعاني من جموح الضباط الاشتراكيين الحورانيين والضباط المستقلين الموالين للاشتراكيين، والضباط من الحزب السوري القومي وجماعته وضباط عبد الحميد السراج، هذا الذي أصبح بصلة مباشرة مع الكيان المصري عبر القيادة المشتركة العربية وعبر السفارة المصرية، وكان هؤلاء الضباط جميعهم يتنافسون في الطموح إلى تحقيق مآربهم، ولكل فئة منهم غاربة يعرفها البقية، واجتمعت كلمتهم على أن يضعوا أنفسهم باعتبارهم حماة الديار فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، وأصبحوا بحاجة لمن يوزع بينهم الأدوار ويضبط تنافرهم، فوجدوا في شخص الضابط الشرس عفيف البزري.
الجميع يعلم بأن سورية – قلب العروبة النابض – منذ عهد التتريك زمن العثمانيين والجميع يعلم أن شباب هذا البلد منذ ذلك الزمن طلاب وحدة عربية شاملة، كانوا يحلمون بذلك اليوم الذي تتحقق فيه الوحدة، ولكن ذلك لا يجوز أن يتم عشوائياً، بل عليه أن يتم عن طريق تشريعي يمثل الأمة بأسرها ويضع أساس هذا الارتباط الجذري المصيري.
في ظل هذه الظروف السائدة نزولاً عند رغبة ضباط القوات المسلحة هب وزير الخارجية صلاح البيطار وهو بعثي إلى مصر ليلتقي مع الإخوة المصريين، أي مجلس الثورة لإحكام خيوط الوحدة، وكان ذلك دون علم رئيس الوزراء خالد العظم.
ولما تمهدت الأمور واشتدت الارتباطات وأحكمت حلقاتها سافر وفد عسكري برئاسة العقيد عفيف البزرة الذي أمطروه رتبة فريق، ووصل إلى مصر ليطالب بالوحدة الفورية، واجتمع الوفد مع بعض ضباط الثورة، وقد أخطأ البزرة أثناء الحديث ولفظ كلمة اتحاد بدلاً من الوحدة فثار أحد ضباط مجلس الثورة يصحح اللفظ ويقول: إحنا منتكلم عن وحدة مش اتحاد.
واجتمع الوفد أخيراً مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي رحب بالوفد، ثم استمع إلى مطالبه، فقال: إن هذا الأمر يحتاج إلى قرار من المجلس التشريعي السوري والسلطات السورية، فقالوا له: إن هذه أمور كلها معروفة ومضمونة ونحن نطلب تحقيق الوحدة فوراً، ولا نخرج من هذا الاجتماع إلا بعد أن نقرأ الفاتحة على نشأة الوحدة، ووافقهم عبد الناصر، وقرئت الفاتحة، ونشأت الوحدة كأنها مراسم خطوبة.
ولما وصل الخبر إلى سورية هاجت وماجت جماهير حركتها مخابرات السراج، ولم يجد الرسميون في سورية بداً من الذهاب إلى القاهرة لاستجلاء الأمر، وقد حاول خالد العظم استبدال الوحدة باتحاد، ولكنه لم يفلح، وبقي محتفظاً برأيه في هذا الاتجاه، ولما انعقد المجلس النيابي برئاسة أكرم الحوراني لطرح الوحدة عارضها كل من خالد بكداش وصالح عقيل وهاني السباعي، ولكن الوحدة أقرت بما يشبه الإجماع، ولم يمنع ذلك الوزيرين عقيل والسباعي من السفر إلى القاهرة في اليوم التالي.
وتنازل فخامة الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية عن الرئاسة لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، فاتحاً بذلك عهداً جديداً تتحقق فيه أحلام السوريين جميعاً ببدء وحدة عربية شاملة رائدتها مصر الشقيقة الكبرى في الأسرة العربية).
وجاء في بيان إعلان الجمهورية العربية المتحدة:
والمجتمعون إذ يعلنون قراراتهم هذه يحسون بأعمق السعادة وأجل ألوان الفخر إذ شاركوا في الخطوة الإيجابية في طريق وحدة العرب حقبة بعد حقبة، وجيلاً بعد جيل، والمجتمعون إذ يقررون وحدة البلدين يعلنون أن وحدتهم تتوخى شمل العرب، ويؤكدون أن باب الوحدة مفتوح لكل بلد عربي يريد أن يشترك معها في وحدة أو اتحاد يدفع عن العرب الأذى والسوء ويعزز سيادة العروبة ويحفظ كيانها...).
وكان الانفصال بعد ثلاث سنوات:
في 28 أيلول 1961 حدث في سورية انقلاب عسكري.. وأعلنت الحكومة المؤقتة في 30 أيلول 1961 عن برنامجها السياسي.. وأصدرت جماعة من السياسيين في 2 تشرين أول بياناً تم فيه الإعلان عن الدعم والتأييد الكاملين لخطوة الجيش الجبارة، وناشدت جميع الدول العربية أن تنظر بجدية إلى هذا النظام وأهدافه التقدمية في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ووقع هذا البيان كل من أكرم الحوراني وصلاح البيطار وزعيم المستقلين خالد العظم وصبري العسلي وغيرهم.. ودعم كل من شكري القوتلي وفارس الخوري وسلطان الأطرش نظام الانفصال، أما بالنسبة لموقف حزب البعث من الانقلاب وبغض النظر عن موقف قادته المذكورين أعلاه، كان معارضاً له، ولقد أصدرت القيادة القومية لحزب البعث في بيروت بيانيين متعارضين ومتناقضين، فأحدهما كان ضد هذا الانقلاب والآخر معه، فيما بعد اعترف حزب البعث بالبيان الأول فقط... وأشار الحزب الشيوعي السوري في الوقت الذي أيَّد فيه خروج سورية من الوحدة إلى أن فشل الوحدة لا يعني على الإطلاق فشل مفهوم ومبدأ الوحدة، واستقبلت الأوساط البورجوازية والإقطاعية حركة الانفصال بترحيب واسع، فقدم إلى دمشق عقب الانقلاب وفود تمثل أصحاب المصانع والشركات المؤسسة ومن التجار وكبار الملاك والإقطاعيين وغيرهم ليعلنوا عن تأييدهم الكامل لحكومة الانفصال.. ومن أجل أن تحوز حكومة الانفصال على اعتراف الدول العربية، فقد أسرعت للإعلان عن أنها سوف تبقى مخلصة لمبادئ الوحدة العربية رغم خروج سورية المؤقت من الجمهورية العربية المتحدة، فوجهت حكومة الانفصال دعوة إلى جميع الأقطار العربية تحثهم فيها على العمل الجاد لإقامة اتحاد فيدرالي طوعي يقوم على أساس المساواة بين جميع الأقطار المشتركة فيه، وأشير في مشروع الاتحاد الفيدرالي المقدم إلى أن السلطات التشريعية والتنفيذية داخل كل قطر سوف تستمر في تنفيذ مهامها في داخل القطر وفي مجال العلاقات الدولية ويقضي المشروع بعدم التدخل من جانب أي قطر في الشؤون الداخلية لقطر آخر وما إلى ذلك من الشروط الأخرى الخاصة باحترام الحريات الشخصية والدستورية لأعضاء الاتحاد الفيدرالي، وأشير بنفس الوقت إلى أن هذا الاتحاد لا يتعارض مطلقاً مع أن تقوم بين بعض الأقطار الداخلة في الاتحاد وحدة اندماجية.. ولا في هذا المشروع – كما كان يتوقع له – التأييد من جانب الحكومة العراقية بزعامة عبد الكريم قاسم الذي كان يكن العداء لحكومة الجمهورية العربية المتحدة.. أما حكومة مصر فقد أعلنت عن رفضها حتى لمناقشة هذا المشروع).
المحاولات الأخرى للوحدة العربية:
لقد نشأ عن فشل الوحدة العربية رد فعل قوي لدى الحاكمين في عدم إعادة التجربة في الوحدة الفورية بين الأنظمة الحاكمة، بينما بقيت الجماهير تنادي بالوحدة العربية الشاملة وتتلهف لها، وواضح أن القرار في النهاية هو بيد الأنظمة الحاكمة، فقد رافق تجربة الجمهورية العربية المتحدة تجربة اتحاد عربي بينها وبين اليمن انتهى مع قيام الانفصال.
وبعد الانفصال عن مصر وعودة الجمهورية العربية السورية، وقيام ثورة 8 شباط 1963 في العراق، والتي كان يؤيدها حزب البعث هناك، جرت محاولة جديدة للتقارب بين النظامين العراقي والسوري (وتحت الضغط من جانب حزب البعث وجهت حكومة خالد العظم دعوة لتشكيل اتحاد فيدرالي بين سورية والعراق، وجاء في إعلان وزير الخارجية السورية مايلي: إن سورية العربية تعلن بأنه لم يعد هناك أية صعوبات على طريق الاتحاد مع العراق الشقيق، ونأمل أن يكون هذا الاتجاه مركز استقطاب للدول العربية الأخرى).
( أما التجربة الثالثة فتمثلت في الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن عام 1958 كرد فعلٍ على الوحدة المصرية السورية، وانتهت بقيام ثورة العراق الأولى في تموز – يوليو من العام نفسه، ثم جاءت التجربة الرابعة لإقامة وحدة بني كل من مصر والعراق وسورية عام 1963، وظلت هذه المحاولة حبراً على ورق ولم تر النور، وجرت التجربة الخامسة بعد قيام الثورة الليبية في أيلول – سبتمبر 1969، وتبنيها من جديد دعوة الوحدة العربية وإنشاء اتحاد الجمهوريات العربية سنة 1971 الذي ضم كلاً من مصر وسورية وليبيا ولكنه لم يدم طويلاً وتجمد ثم انتهى).
سادساً- تطور مفهوم الوحدة العربية لدى البعث الاشتراكي:
قبل أن يصل إلى الحكم قال:
( المبدأ الأول: وحدة الأمة العربية وحريتها:
العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها ولهذا فإن حزب العربي الاشتراكي يعتبر:
1- الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ، ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر.
2- الأمة العربية وحدة ثقافية جميع الفوارق بين أبنائها عرضية زائفة تزول جميعها بتغطية الوجدان العربي.
3- الوطن العربي للعرب ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته).
وبعد أن وصل إلى الحكم، أصبحت الوحدة عنده لقاءً بين القوى الثورية فقط، والقوى الاشتراكية.
( إن الاشتراكية هي المضمون الواقعي للوحدة العربية، وإن بناء الاشتراكية يجعل الوحدة الإطار البشري والاقتصادي الأكثر انسجاماً.. لذا فإن الوحدة العربية والاشتراكية قضيتان متلازمتان على الصعيد التاريخي والاقتصادي).
ومن أجل هذا كانت تجارب الوحدة فقط مع الأنظمة الاشتراكية، مصر، وليبية والعراق، ومع ذلك لم تتمكن هذه الوحدات الاشتراكية أن تصمد أكثر من أشهر، وقام حزب البعث في سورية والعراق، وعجز خلال عشرين عاماً من إقامة وحدة بين شطري الحزب، بل أن يقيم وحدة عربية في أرجاء الوطن العربي ولأن الحزب وصل إلى السلطة في قطرين عربيين، وهو الحزب الجماهيري الداعي للوحدة العربية، كان هو الذي يمثل واقع التيار القومي، وتطبيقه للوحدة تاركين الآراء النظرية في مهب الريح حيث لا وجود لها على أرض الواقع.
سابعاً- الحركات الإسلامية والوحدة العربية:
لقد كان الإمام الشهيد حسن البنا المؤسس الأول للإخوان المسلمين رمزاً من رموز الوحدة العربية فهو الذي ربط مصر بالأقطار العربية، وكانت الحركة الإسلامية في العالم العربي تخضع لقيادة واحدة تمثلت في ارتباطها بالمرشد العام، بينما اعتبرت الحركات الأخرى على رأسها المراقب العام وذلك في الأقطار العربية الأخرى، ولهذا دلالته الهامة فمسؤولوا الأقطار هم تابعون لمرشد عام واحد، وتجسد هذا فيما بعد بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تمثلت فيه كل الأقطار العربية وفي رسالة المؤتمر الخامس تحدث صراحة عن وحدة العرب فقال:
وحدة العرب أمر لابد منه لإعادة الإسلام، وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية).
وهذه عوامل الوحدة العربية في فكر الإخوان المسلمين:
( جـ- وقد ذكر البنا وغيره من كتاب الإخوان أن العوامل التي تؤدي إلى الوحدة الكاملة للأمة العربية تتمثل فيما يلي:
1- الوحدة الجغرافية: فالأرض واحدة تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في اتصال والتحام لا تقسمها الفواصل الكونية أو التضاريس مع تميزها بثروتها الطبيعية واستغنائها بخيراتها.
2- الوحدة الروحية: فالمسلمون يقدسون الإسلام عقيدة وغيرهم يعتزون به شريعة قومية عادلة ونظاماً اجتماعياً ترعرع في أوطانهم.
3- الوحدة اللغوية، فاللغة واحدة للمسلمين وغير المسلمين من العرب الذين يحوطونها بمشاعرهم.
4- وحدة الآمال والآلام التي يمثلها تاريخ ضخم مشترك في القديم والجديد.
5- الوحدة الفكرية والثقافية والاجتماعية بتشابه العادات والتقاليد في شعوبه).
كما طالب الإخوان المسلمون بتجاوز الجامعة العربية ووضعوا الطريق الصحيح للوحدة.
( هـ- وقد رأى الإخوان أنه لكي تنجح الجامعة العربية في تحقيق الوحدة العربية وآمال العرب فمن الضروري التزام هذه الأسس بجانب ما سبق.
1- ستظل الوحدة بطيئة الجنى ما دامت مقصورة على ناحيتها الرسمية بين الحكومات، فيجب الإسراع في توحيد الثقافات حتى تتقارب الأفهام ويفتح الباب للاندماج الكامل، وهذا يستدعي تغييراً في مناهج وسياسة التعليم في المعاهد والمدارس العربية، وتوجيه الثقافات وجهة واحدة تخدم أهداف الوحدة، ومعنى ذا وضع المعاهدة الثقافية بين الدول العربية موضع التطبيق.
2- العمل لتحقيق الوحدة السياسية برفع الحدود، والوحدة الاقتصادية.
3- الجامعة العربية أداة لجمع كلمة العرب وتوجيههم قوة واحدة لتحقق رسالتهم في الحياة (نشر المثل العليا) أي الإسلام.
4- أجزاء الوطن العربي تنتظر من الجامعة النجدة لتحقيق حريته أو إتمامها فيجب أن تؤمن الجامعة العربية بحقها في حماية العرب وصيانة استقلالهم فلا تكون آلة في يد غيرهم، ومن الضروري بث ذلك في نفوس الشعب حتى يحتشد وراء هذا الميثاق).
ثامناً- الإخوان المسلمون في سورية وقضية الوحدة العربية:
1- في تبني القضايا العربية: لقد كان الإخوان المسلمون يعيشون الوحدة العربية واقعاً حياً، فالقضايا العربية تملك عليهم مشاعرهم يرفعون بها المذكرات للحكومات والجهات المختصة (وتأتي في مقدمة القضايا العربية القضية الفلسطينية وقضية مصر، وكما قال السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية (نستطيع أن نؤكد بأن هيئة أو حزباً أو جماعة ما في بلادنا لم تساهم بنشاط عملي شعبي واسع في سبيل نصرة فلسطين وإنقاذها كما ساهم الإخوان المسلمون، أما قضية مصر فقد أيد الإخوان المسلمون في سورية مطلبيها الرئيسيين، الجلاء ووحدة وادي النيل.. ولم يكن تأييد الإخوان لنضال الشعب العربي المغربي ضد الاستعمار الفرنسي بأقل من تأييدهم لمصر، بل أثار الإخوان المسلمون في مذكرة رفعوها إلى مجلس الجامعة العربية المنعقدة في دمشق بتاريخ 9 شعبان 1370 هـ الموافق 15 / 5 / 1951 م قضية الإمارات العربية.. وطالبوا الجامعة بوجوب العمل لتحريرها واستقلالها) .
2- الموقف من وحدة مصر وسوريا:
ولقد كان موقف الإخوان المسلمين في سورية موقفاً في غاية المبدئية والموضوعية، فرغم الصراع الذي كان قائماً بين الإخوان والمسلمين وعبد الناصر في مصر، تناسى الإخوان هذه الجراح وكان تأييدهم للوحدة منقطع النظير والمظاهرات التي قادها الإخوان المسلمون في العاصمة دمشق تأييداً للوحدة لم تشهدها دمشق من أي حزب سياسي آخر، ووافق الإخوان المسلمون على حل تنظيمهم السياسي مراعاة لمصلحة الأمة العليا، وحرصاً على نجاح الوحدة بين القطرين لأن عبد الناصر اشترط إلغاء الأحزاب السياسية في سورية كأساس للموافقة على الوحدة معها، بينما رفض الشيوعيون ذلك.
3- الموقف من الانفصال بين القطرين:
وبالموقف المشرف نفسه، ورغم المضايقات والملاحقات التي شهدها الإخوان المسلمون بأشخاصهم وزعماءهم في عهد الوحدة، فقد رفضوا التوقيع على وثيقة الانفصال حيث كان الأستاذ عصام العطاء المراقب العام للإخوان المسلمين هو الذي يمثل الجماعة في لقاء الأحزاب والفئات السياسية عقب الانفصال في الوقت الذي وقع على وثيقة الانفصال عن مصر اثنان من زعماء حزب البعث الاشتراكي السوري هما أكرم الحوراني وصالح البيطار، وكان كتاب – اشتراكية الإسلام – للدكتور مصطفى السباعي معتمداً لدى الإعلام المصري وينقل منه حلقات في الإذاعة المصرية أثناء عهد الانفصال.
4ً- بعد قرابة عشرين عاماً، وحين كان بيان الثورة الإسلامية يمثل فكر الإخوان المسلمين السوريين عام 1980 آنذاك، جاء الحديث عن الوحدة العربية كما يلي:
( في السياسة الخارجية: أولاً: الوحدة العربية:
لم يكن يخطر على بال أحد من قادة الحركة الإسلامية الحديثة أن الزمن سيتمخض عن تمزيق هذا العالم الواحد بعد الحرب العالمية الأولى إلى ما سار إليه واستقر عليه، إلا أن إرادة الأعداء المتربصين كانت أقوى من آمال المخلصين...
- مرض التجزئة: ومنذ ذلك التاريخ كان التوجه الأساسي لدى المخلصين من قادة هذه الأمة يتمثل في إزالة حاجز التجزئة وإعادة الوطن العربي الممزق إلى وحدته الكاملة تمهيداً لاتحاد المسلمين، شعوراً منهم أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجباتها تجاه ذاتها وتجاه الإسلام وتجاه الإنسانية إلا من خلال الوحدة الشاملة، وفي إطار الدولة الواحدة، لأن هذا هو الحل الأمثل الذي يسمح بالتوظيف الأمثل للطاقات البشرية والمادية بصورة متكاملة متوازنة.. والثورة الإسلامية في سورية تعتبر بداية الانفصال في دولة الوحدة بين مصر وسورية، مع كل البواعث الأليمة التي أدت إلى هذا المآل، نهاية التوجهات الحقيقية نحو الوحدة، وبداية التدعيم الكثيف للنزعات العرقية والطائفية والإقليمية والقطرية....
إن من العار الذي ما بعده عار على شعب يتكلم بلغة واحدة، ويدين بعقيدة واحدة، ويعبد رباً واحداً أن يُعتبر أبناؤه في بعض الأقطار العربية غرباء، وفي الوقت الذي يسرح فيه الغرباء الحقيقيون في هذه الأقطار.
إن أمتنا كلها وبمجموع أفرادها تبوء بإثم التمزق والانقسام ما لم يعملوا على استئصال أسبابه، والقضاء على بواعته، والعودة بالأمة إلى سابق وحدتها، وغابر مجدها).
( 4- يجب على أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد بالقوة أو استخدامها للاعتداء على سلامة أراضي أي عضوٍ في الهيئة أو استقلاله السياسي أو سلامة أو استقلال أي دولة أو يسلكوا أي سبيل يتعارض مع أغراض الأمم المتحدة).
لقد تكرس الانفصال التام بين الدول العربية من خلال ميثاقي الجامعة العربية والأمم المتحدة وانحصرت العلاقة بالتعاون والتنسيق بدلاً عن الوحدة وانصهار الكيانات في كيان واحد، وتحولت الوحدة العربية إلى خيال وحلم من أحلام الشعب العربي.
- المرحلة الثانية: النصف الثاني من القرن العشرين:
مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين انتهى سلطان الأحزاب الوطنية التقليدية، وتمكنت الأحزاب القومية من الوصول إلى السلطة والتي جعلت الوحدة العربية الهدف الأول من شعاراتها وفي أول أولوياتها واهتماماتها، ففي عام 1952 قامت الثورة المصرية ضد الملكية، وفي عام 1956 تمكن التجمع القومي الذي يمثل البعث العربي مع الشيوعيين من الانتصار على التيار الإسلامي، وانتهى بقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، ولأن وحدة سورية ومصر كانت هي الوحدة اليتيمة الوحيدة في هذا القرن، وبانتخاب شعبي حرٍ دون اللجوء إلى القوة فلا بد من وقفة عندها ملياً، لنرى أسباب صعودها وأسباب انهيارها.
الوضع السوري عند الوحدة: كان الزعيم شوكت شقير رئيساً للأركان ويعاني من جموح الضباط الاشتراكيين الحورانيين والضباط المستقلين الموالين للاشتراكيين، والضباط من الحزب السوري القومي وجماعته وضباط عبد الحميد السراج، هذا الذي أصبح بصلة مباشرة مع الكيان المصري عبر القيادة المشتركة العربية وعبر السفارة المصرية، وكان هؤلاء الضباط جميعهم يتنافسون في الطموح إلى تحقيق مآربهم، ولكل فئة منهم غاربة يعرفها البقية، واجتمعت كلمتهم على أن يضعوا أنفسهم باعتبارهم حماة الديار فوق السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، وأصبحوا بحاجة لمن يوزع بينهم الأدوار ويضبط تنافرهم، فوجدوا في شخص الضابط الشرس عفيف البزري.
الجميع يعلم بأن سورية – قلب العروبة النابض – منذ عند التتريك زمن العثمانيين والجميع يعلم أن شباب هذا البلد منذ ذلك الزمن طلاب وحدة عربية شاملة، كانوا يحلمون بذلك اليوم الذي تتحقق فيه الوحدة، ولكن ذلك لا يجوز أن يتم عشوائياً، بل عليه أن يتم عن طريق تشريعي يمثل الأمة بأسرها ويضع أساس هذا الارتباط الجذري المصيري.
في ظل هذه الظروف السائدة نزولاً عند رغبة ضباط القوات المسلحة هب وزير الخارجية صلاح البيطار وهو بعثي إلى مصر ليلتقي مع الإخوة المصريين، أي مجلس الثورة لإحكام خيوط الوحدة، وكان ذلك دون علم رئيس الوزراء خالد العظم.
ولما تمهدت الأمور واشتدت الارتباطات وأحكمت حلقاتها سافر وفر عسكري برئاسة العقيد عفيف البزرة الذي أمطروه رتبة فريق، ووصل إلى مصر ليطالب بالوحدة الفورية، واجتمع الوفد مع بعض ضباط الثورة، وقد أخطأ البزرة أثناء الحديث ولفظ كلمة اتحاد بدلاً من الوحدة فثار أحد ضباط مجلس الثورة يصحح اللفظ ويقول: إحنا منتكلم عن وحدة مش اتحاد.
واجتمع الوفد أخيراً مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي رحب بالوفد، ثم استمع إلى مطالبه، فقال: إن هذا الأمر يحتاج إلى قرار من المجلس التشريعي السوري والسلطات السورية، فقالوا له: إن هذه أمور كلها معروفة ومضمونة ونحن نطلب تحقيق الوحدة فوراً، ولا نخرج من هذا الاجتماع إلا بعد أن نقرأ الفاتحة على نشأة الوحدة، ووافقهم عبد الناصر، وقرئت الفاتحة، ونشأت الوحدة كأنها مراسم خطوبة.
ولما وصل الخبر إلى سورية هاجت وماجت جماهير حركتها مخابرات السراج، ولم يجد الرسميون في سورية بداً من الذهاب إلى القاهرة لاستجلاء الأمر، وقد حاول خالد العظم استبدال الوحدة باتحاد، ولكنه لم يفلح، وبقي محتفظاً برأيه في هذا الاتجاه، ولما انعقد المجلس النيابي برئاسة أكرم الحوراني لطرح الوحدة عارضها كل من خالد بكداش وصالح عقيل وهاني السباعي، ولكن الوحدة أقرت بما يشبه الإجماع، ولم يمنع ذلك الوزيرين عقيل والسباعي من السفر إلى القاهرة في اليوم التالي.
وتنازل فخامة الرئيس شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية عن الرئاسة لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، فاتحاً بذلك عهداً جديداً تتحقق فيه أحلام السوريين جميعاً ببدء وحدة عربية شاملة رائدتها مصر الشقيقة الكبرى في الأسرة العربية).
وجاء في بيان إعلان الجمهورية العربية المتحدة:
والمجتمعون إذ يعلنون قراراتهم هذه يحسون بأعمق السعادة وأجل ألوان الفخر إذ شاركوا في الخطوة الإيجابية في طريق وحدة العرب حقبة بعد حقبة، وجيلاً بعد جيل، والمجتمعون إذ يقررون وحدة البلدين يعلنون أن وحدتهم تتوخى شمل العرب، ويؤكدون أن باب الوحدة مفتوح لكل بلد عربي يريد أن يشترك معها في وحدة أو اتحاد يدفع عن العرب الأذى والسوء ويعزز سيادة العروبة ويحفظ كيانها...).
وكان الانفصال بعد ثلاث سنوات:
في 28 أيلول 1961 حدث في سورية انقلاب عسكري.. وأعلنت الحكومة المؤقتة في 30 أيلول 1961 عن برنامجها السياسي.. وأصدرت جماعة من السياسيين في 2 تشرين أول بياناً تم فيه الإعلان عن الدعم والتأييد الكاملين لخطوة الجيش الجبارة، وناشدت جميع الدول العربية أن تنظر بجدية إلى هذا النظام وأهدافه التقدمية في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ووقع هذا البيان كل من أكرم الحوراني وصلاح البيطار وزعيم المستقلين خالد العظم وصبري العسلي وغيرهم.. ودعم كل من شكري القوتلي وفارس الخوري وسلطان الأطرش نظام الانفصال، أما بالنسبة لموقف حزب البعث من الانقلاب وبغض النظر عن موقف قادته المذكورين أعلاه، كان معارضاً له، ولقد أصدرت القيادة القومية لحزب البعث في بيروت بيانيين متعارضين ومتناقضين، فأحدهما كان ضد هذا الانقلاب والآخر معه، فيما بعد اعترف حزب البعث بالبيان الأول فقط... وأشار الحزب الشيوعي السوري في الوقت الذي أيَّد فيه خروج سورية من الوحدة إلى أن فشل الوحدة لا يعني على الإطلاق فشل مفهوم ومبدأ الوحدة، واستقبلت الأوساط البورجوازية والإقطاعية حركة الانفصال بترحيب واسع، فقدم إلى دمشق عقب الانقلاب وفود تمثل أصحاب المصانع والشركات المؤسسة ومن التجار وكبار الملاك والإقطاعيين وغيرهم ليعلنوا عن تأييدهم الكامل لحكومة الانفصال.. ومن أجل أن تحوز حكومة الانفصال على اعتراف الدول العربية، فقد أسرعت للإعلان عن أنها سوف تبقى مخلصة لمبادئ الوحدة العربية رغم خروج سورية المؤقت من الجمهورية العربية المتحدة، فوجهت حكومة الانفصال دعوة إلى جميع الأقطار العربية تحثهم فيها على العمل الجاد لإقامة اتحاد فيدرالي طوعي يقوم على أساس المساواة بين جميع الأقطار المشتركة فيه، وأشير في مشروع الاتحاد الفيدرالي المقدم إلى أن السلطات التشريعية والتنفيذية داخل كل قطر سوف تستمر في تنفيذ مهامها في داخل القطر وفي مجال العلاقات الدولية ويقضي المشروع بعدم التدخل من جانب أي قطر في الشؤون الداخلية لقطر آخر وما إلى ذلك من الشروط الأخرى الخاصة باحترام الحريات الشخصية والدستورية لأعضاء الاتحاد الفيدرالي، وأشير بنفس الوقت إلى أن هذا الاتحاد لا يتعارض مطلقاً مع أن تقوم بين بعض الأقطار الداخلة في الاتحاد وحدة اندماجية.. ولا في هذا المشروع – كما كان يتوقع له – التأييد من جانب الحكومة العراقية بزعامة عبد الكريم قاسم الذي كان يكن العداء لحكومة الجمهورية العربية المتحدة.. أما حكومة مصر فقد أعلنت عن رفضها حتى لمناقشة هذا المشروع).
المحاولات الأخرى للوحدة العربية:
لقد نشأ عن فشل الوحدة العربية رد فعل قوي لدى الحاكمين في عدم إعادة التجربة في الوحدة الفورية بين الأنظمة الحاكمة، بينما بقيت الجماهير تنادي بالوحدة العربية الشاملة وتتلهف لها، وواضح أن القرار في النهاية هو بيد الأنظمة الحاكمة، فقد رافق تجربة الجمهورية العربية المتحدة تجربة اتحاد عربي بينها وبين اليمن انتهى مع قيام الانفصال.
وبعد الانفصال عن مصر وعودة الجمهورية العربية السورية، وقيام ثورة 8 شباط 1963 في العراق، والتي كان يؤيدها حزب البعث هناك، جرت محاولة جديدة للتقارب بين النظامين العراقي والسوري (وتحت الضغط من جانب حزب البعث وجهت حكومة خالد العظم دعوة لتشكيل اتحاد فيدرالي بين سورية والعراق، وجاء في إعلان وزير الخارجية السورية مايلي: إن سورية العربية تعلن بأنه لم يعد هناك أية صعوبات على طريق الاتحاد مع العراق الشقيق، ونأمل أن يكون هذا الاتجاه مركز استقطاب للدول العربية الأخرى).
( أما التجربة الثالثة فتمثلت في الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن عام 1958 كرد فعلٍ على الوحدة المصرية السورية، وانتهت بقيام ثورة العراق الأولى في تموز – يوليو من العام نفسه، ثم جاءت التجربة الرابعة لإقامة وحدة بني كل من مصر والعراق وسورية عام 1963، وظلت هذه المحاولة حبراً على ورق ولم تر النور، وجرت التجربة الخامسة بعد قيام الثورة الليبية في أيلول – سبتمبر 1969، وتبنيها من جديد دعوة الوحدة العربية وإنشاء اتحاد الجمهوريات العربية سنة 1971 الذي ضم كلاً من مصر وسورية وليبيا ولكنه لم يدم طويلاً وتجمد ثم انتهى).
5ً- وأخيراً، مشروع الميثاق الوطني الذي تقدم به الإخوان المسلمون في سورية للعاملين في الحقل السياسي السوري، وتم إقراره ميثاقاً وطنياً في مؤتمر المعارضة السورية بلندن، فقد كانت الثوابت الثلاثة في المشروع، وأضحت جزءاً من المقدمة في الميثاق هي الانتماء الإسلامي هوية ومرجعية، والانتماء للمنظومات العربية، والاستفادة من تحارب الأمم.
وبصدد الثابت الثاني الذي يمثل فكر الإخوان المسلمين قال الميثاق:
( إن انتماء قطرنا إلى منظومته العربية يعتبر أساساً في بناء أي استراتيجية سياسية مستقبلية، ومن الضروري أن يعبر هذا الانتماء عن نفسه في تجسد واقعي فعال، يوثق الروابط ويؤكد العلائق، ويسير بالأمة في طريق التوحد ضمن سياسات منضبطة ومدروسة، ولا يجوز أن يبقى ممثلاُ في رؤى ذهنية أو في مشاعر وأحلام عاطفية.
ثم إن المواجهة بين العروبة والإسلام كانت عنوان مرحلة تاريخية تصرمت، ولقد نشأت تلك المواجهة عن عوامل من الانفعال وسوء الفهم، وحمى الإيديولوجيا التي سادت المناخ العام في فترات ما بعد الاستقلال..).
كما كانت الوحدة العربية هي الهدف الرابع من أهداف الأمة، والتي نص عليها الميثاق بما يلي:
( الهدف الرابع: السعي إلى تحقيق الوحدة العربية:
إن السعي لتحقيق الوحدة العربية على أسس متينة من الروابط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية واجب شرعي وضرورة قومية، وإلى أن تتوفر الشروط الموضوعية لهذه الوحدة لابد من العمل على إعادة التضامن العربي، وتجاوز كل الخلافات البينية، وفتح الحدود بين جميع الدول العربية، وإقامة سوق عربية مشتركة للارتقاء بالعلاقات العربية – العربية إلى مستوى التحديات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تواجه الأمة) ().
تاسعاً- النموذج الصلاحي للوحدة:
كثيراً ما تتراءى لنا أوضاعنا مشابهة للأوضاع المتردية للمسلمين يوم احتل الصليبيون القدس واحتلوا الكثير من الأرض الإسلامية، ولم يتمكن العرب المسلمون من الانتصار على خصومهم إلا من خلال الوحدة، فقد كانت الإمارات العربية في صراع مرير على السلطة تتحالف مع الصليبيين ضد بعضها بعضاً، وانطلق عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين من جعل الأولوية الكبرى لحرب الصليبيين، وأن هذه الحرب لن يتحقق فيها النصر ما لم تتوحد الأمة كلها لحربهم، ومضوا في عمليات التحرير والتوحيد حيث بلغت قمتها من توحد مصر وسورية واليمن والشام كلها، وباركت الخلافة الإسلامية في بغداد هذا التوحد، وكان الإسلام هو أساس هذه الوحدة، والجهاد في سبيل الله هو سبيلها لمواجهة جيوش الفرنجة المتجمعة من أوربا (ومات نور الدين سنة 569 هـ فاضطربت البلاد الشامية والجزيرة ودعي صلاح الدين لضبطها فأقبل على دمشق (مصر) سنة 570 هـ 117 م، فاستقبله بحفاوة وانصرف إلى ما وراءها فاستولى على بعلبك وحماة وحلب، ثم ترك حلب للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين وانصرف إلى الإصلاح الداخلي في مصر والشام، كما اهتم بدفع غارات الصليبيين ومهاجمة حصونهم وقلاعهم في بلاد الشام.. ودانت لصلاح الدين البلاد من آخر حدود النوبة جنوباً وبرقة غرباً إلى بلاد الأرمن شمالً وبلاد الجزيرة والموصل شرقاً، وكان أعظم انتصار له على الفرنج في فلسطين والساحل الشامي يوم حطين سنة 583هـ، 1187 م الذي تلاه استرداد طبرية وعكا ويافا إلى ما بعد بيروت، ثم افتتاح بيت المقدس في نفس العام ووقائع أخرى على أبواب صور، فدفاع مجيد عن عكا). المركز الإعلامي
خامسا: تحديات وطنية
المبحث الأول: الوحدة العربية
المبحث الثاني: الحرية
المبحث الثالث: الإعلام
المبحث الرابع: القضية الفلسطينية
المبحث الخامس: الخلافة الإسلامية
المبحث الأول
الوحــدة العربيـــة
مخطط البحث
تمهيد: لماذا الحديث عن الوحدة العربية؟
أولاً- العرب وأصولهم.
ثانياً- الملك العربي: 1ً- الملك باليمن ومراحله الخمسة.
2ً- الملك بالعراق.
3ً- الملك بالشام.
4ً- الإمارة بالحجاز.
ثالثاً- العرب في العهد النبوي وأول وحدة في التاريخ.
رابعاً- الوحدة في عهد الراشدين:
1ً- حروب التحرير والوحدة (حروب الردة).
2ً- توحيد العراق والشام والجزيرة في عهد الصديق.
3ً- انضمام مصر وليبية في عهد الفاروق.
4ً- قيام الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج ضمن إطار الوحدة الإسلامية.
خامساً- واقع الوحدة العربية في القرن العشرين:
المرحلة الأولى: النصف الأول من القرن العشرين.
المرحلة الثانية: النصف الثاني منه.
سادساً – تطور مفهوم الوحدة العربية لدى البعث العربي قبل الحكم وبعده.
سابعاً- الحركة الإسلامية والوحدة العربية.
ثامناً- الإخوان المسلمون في سورية وقضية الوحدة العربية.
تاسعاً- النموذج الصلاحي للوحدة.
عاشراً- الوحدة العربية اليوم:
1- معوقات الوحدة العربية.
2- الطريق إلى الوحدة العربية اليوم.
3- بيننا وبين دعاة القومية.
حادي عشر– ملخص البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
الوحدة العربية
تمهيد - لماذا الحديث عن الوحدة العربية؟
الحديث عن الوحدة العربية هو من مفرزات هذا القرن، وكان من أهم طروحات دعاة القومية العربية ويكاد يكون القاسم المشترك بينهم جميعاً، فإذا كان شعار البعث العربي الاشتراكي هو الوحدة والحرية والاشتراكية، فشعار القوميين العرب وحدة وتحرر وثأر، والاتحاد الاشتراكي المصري ينطلق من الحرية والاشتراكية والوحدة، والحركات التي قامت في العهد العثماني طرحت كلها شعار وحدة الأمة العربية، وكان أساساً من مباحثات الشريف حسين ومكماهون، وحزب عصبة العمل القومي يقول: (إننا نريد وحدة سورية، فوحدة عربية شاملة ذات كيان سياسي مستقل محترم) وهو أول حزب قومي في عهد الانتداب الفرنسي عام 1933، أما قبل الانتداب فكان حزب العربية الفتاة هو الذي حمل هذه الراية في العهد العثماني وقد تأسس عقب الانقلاب العثماني عام 1908 بأربعة أيام وهدفه (النهوض بالأمة العربية إلى مصاف الأمم الحية) كما تقول المادة الأولى من الدستور) آنذاك لم تكن التجزئة قائمة، وكانت الأمة العربية كلها ضمن الدولة العثمانية.
وإذا تجاوزنا الأحزاب إلى الدول، فمعظم دساتير الدول العربية تنص على مطلب الوحدة العربية، كما قال القوتلي رئيس سورية في عيد الاستقلال الأول: إننا لن نقبل أن يرتفع فوق علم هذه البلاد سوى علم واحد هو علم الوحدة العربية).
ولقد تجذر شعور الوحدة العربية لدى الشباب العربي في كل مكان، من دون أن يتجسد في هذا القرن إلا في وحدات جزئية أو اتحادات إقليمية، لم تمثل طموح العرب ولا رغبتهم في أن يرى العرب في دولة واحدة يرفرف عليها علم واحد.
وشاركت الحركات الإسلامية في هذا المبدأ، ونصت عليها في مبادئها، في الوقت الذي كانت الحركات الإقليمية هي التي تمثل أنظمة الحكم، فقد تحدث الإمام البنا رحمه الله عن الوحدة العربية بصفتها مطلباً وهدفاً من مطالب الإخوان المسلمين وبصفتها نواة للوحدة الإسلامية وكان الصراع قائماً بين دعاة الإسلام في النصف الثاني من هذا القرن حول أولوية الوحدة العربية أو أولوية الدولة الإسلامية، وعندما قامت الوحدة الوحيدة اليتيمة في هذا القرن بين سورية ومصر كان الإخوان المسلمون في سورية من أشد المتحمسين لها وكانت تظاهراتهم في تأييدها تفوق كل التظاهرات، وعندما وقع الانفصال بين جناحي الجمهورية العربية المتحدة، كان الإخوان المسلمون هم الهيئة السياسية الوحيدة التي رفضت التوقيع على وثيقة الانفصال.
الزمن يمر والقرن ينتهي والتجزئة مستمرة، وعرى الوحدة منفصمة، والشعور العربي بالرغبة في الوحدة يطغى ويتنامى.
سيكون حديثنا في هذا البحث لأضخم مشكلات هذا العصر، عن الجذور التاريخية للعرب وللوحدة العربية وإبراز أن الإسلام في التاريخ هو وحده الذي أنشأ الوحدة العربية، وأقامها واقعاً حياً على الأرض وهو الذي حافظ عليها من الاندثار طيلة أربعة عشر قرناً، وهو اليوم يحمل هذا اللواء، وهو الوحيد القادر على توحيد هذه الأمة نواة لوحدة الأمة المسلمة، {وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (سورة الأنفال من الآية 63).
أولاً- العرب وأصولهم:
أما أصول العرب فقد قسمها المؤرخون إلى ثلاثة أقسام، بحسب السلالات التي ينحدرون منها:
1- العرب البائدة: وهم العرب القدامى الذين لم يمكن الحصول على تفاصيل كافية عن تاريخهم مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وسواهما.
2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان، وتُسمى بالعرب القحطانية.
3- العرب العدنانية: قال ابن إسحاق: فمن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق