والإخوان المسلمون جماعة تلتقي عندها آمال محبي الإصلاح، والشعوب المستضعفة، والمسلمين المصادرة حقوقهم.
إنهم دعوة سلفية، إذ يدعون إلى العودة إلى الإسلام، إلى معينه الصافي، إلى كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام.
و طريقة سنية، إذ يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شيء، خاصةً في العقائد والعبادات.
وحقيقة صوفية، يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس، ونقاء القلب، وسلامة الصدر، والمواظبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحب في الله، والأخوة فيه سبحانه.
وهم هيئة سياسية، يطالبون بالإصلاح في الحكم، وتعديل النظر في صلة الأمة بغيرها من الأمم، وتربية الشعب على العزة والكرامة.
وهم جماعة رياضية، يعتنون بالصحة، ويعلمون أن المؤمن القوي هو خير من المؤمن الضعيف، ويلتزمون قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لبدنك عليك حقًا"، وأن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تُؤدى إلا بالجسم القوي، والقلب الذاخر بالإيمان، والذهن ذي الفهم الصحيح.
وهم رابطة علمية وثقافية، فالعلم في الإسلام فريضة يحض عليها، وعلى طلبها، ولو كان في الصين، والدولة تنهض على الإيمان.. والعلم.
وهم شركة اقتصادية، فالإسلام يُعنَى بتدبير المال وكسبه، والنبي-صلى الله عليه وسلم- يقول: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" و(من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له).
كما أنهم فكرة اجتماعية، يعنون بأدواء المجتمع، ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها.
هذا الفهم للإسلام يؤكد على شمول معنى الإسلام، الذي جاء شاملاً لكل أوجه ومناحي الحياة، ولكل أمور الدنيا والآخرة.
الأقليات والمواثيق الدولية
مخطط البحث:
أولا:- تعريف الأقلية
ثانيا:-الأقلية في العهد النبوي
ثالثا:- الأقليات على امتداد التاريخ الإسلامي
رابعا:- الأقليات في العالم وكيف عوملت؟
خامسا:- الحرب العلمانية للدولة العثمانية وظهور فكرة الأقليات
سادسا:- الأقليات في خط شريف كولخانة، والخط الهمايوني
سابعا:- الأقليات الإسلامية اليوم وكيف تعامل؟
ثامنا:- الأقليات العِرقية والدينية في الوطن الإسلامي
تاسعا:- مقارنة بين الإسلام والواقع بالنسبة للأقليات
عاشرا:- ما يتعلق بالأقليات في وثيقة حقوق الإنسان
الحادي عشر:- المنطلق العلماني في حقوق الإنسان
الثاني عشر:- تطوّرات في حقوق الإنسان:-
1- المرأة 2- مؤتمر السكان 3- الطفل 4- الأسرة
الثالث عشر: -الأقليات في سورية
الرابع عشر:- كيف كانت تُعامَل الأقليات في العهد الإسلامي في سورية؟
الخامس عشر:- الأقليات في عهد الاحتلال
السادس عشر:- الأقليات في عهد الاستقلال
السابع عشر:- الأقليات في عهد البعث وبعد انقلاب 8 آذار
الثامن عشر:- كيف نتعامل مع الأقليات اليوم؟
الأقليات والمواثيق الدولية
1- تعـريف الأقلية:
كلّ ما ذكر في المعجم الوسيط في تعريفها: الأقلية: خلاف الأكثرية، جمع أقليات.
لكن ورد الحديث عنها في تعريف الديمقراطية الحرة:
ديمقراطية حرة: الديمقراطية التي تحاول حلّ التعارض بين السلطة والحرية، والذي ينشأ عن وجود أغلبية يخضع لها الأقلية، وذلك عن طريق وسائل للتوفيق والتعادل، كالاعتراف للأفراد بالحقوق في مواجهة الدولة - بنوع خاص حقّ المعارضة -.
2- الأقلية في العهد النبوي:
عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسس أول حكومة إسلامية من اثني عشر وزيراً موزعين على قبائل المدينة كلها. " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أخرجوا منكم اثني عشر نقيباً)). فأخرجهم، فكان نقيب بني النجار أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني سلمة البراء بن معرور وعبد الله ابن عمرو بن حرام، وكان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، وكان نقيب بني زريق رافع بن مالك بن العجلان، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج عبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع، وكان نقيب بني عوف بن الخزرج عبادة بن الصامت، ونقيب بني عبد الأشهل أسيد بن حضير وأبو الهيثم بن التيهان، وكان نقيب بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة.
هذه قبائل المدينة كاملة، وكلّ قياداتها مسلمة، ومعظم أبناء القبائل مسلمين.كان هناك في كلّ قبيلة من هذه القبائل عدد من الأفراد قد اعتنقوا الديانة اليهودية، وكان هناك في كلّ قبيلة من هذه القبائل عدد من الأفراد لا يزالون على شركهم، فجاءت الوثيقة النبوية خصيصاً لتحديد حقوق هذه الأقليات من هؤلاء الأفراد، دون ذكر حقوق المشركين ؛ لأنّ الذين أسلموا كانوا مشركين كلهم، وكلّ يوم ينضمّ جديداً منهم لهذا الدين، أما اليهود فلم يسلم منهم أحد، وبقوا على يهوديتهم.
فما هي الحقوق التي أعطيت لهم؟.
1- اعترف بهم جزء من المجتمع المدني: وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين..
2- الاعتراف بدينهم واستقلالهم فيه: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
3- ومواليهم لهم مثل حقهم: مواليهم وأنفسهم.
4- يحفظ لهم انتماءهم القبلي: وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل يهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل يهود بني عوف، وإنّ ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ ليهود الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإنّ لبني الشطينة ما ليهود بني عوف.
5- التعامل معهم بالبرّ والقسط: وإن البرّ دون الإثم.
6- لأتباعهم حقّ مثل حقّ أسيادهم: وإن بطانة يهود كأنفسهم.
الواجبات عليهم:
1- الاشتراك في الإنفاق عند الحرب: وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين دون المحاربين.
2- لا حماية لظالم: إلا من ظلم وأثم فإنه لا............ إلا نفسه وأهل بيته.
3- الاستئذان عند مغادرة المدينة: وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد r.
الحقوق والواجبات المشتركة لمواطني المدينة: مسلمين ويهود:
1- خطأ الحليف لا يحمله المتحالف معه، فكلّ مخطئ يحاسب على تقصيره: وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
2- والمظلوم أياً كان جنسه أو عقيدته فلا بدّ أن يُنصر: وإن النصر للمظلوم.
3- حدود الوطن واحدة للجميع، يحرم فيها الاعتداء: وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
4- معاملة الجار كالنفس (المستجير): وإن الجار كالنفس، غير مضار ولا آثم.
5- الحُرمات مصونة، فلا يتدخل فيها أحد إلا بإذن أهلها: وأنه لا تجار حرمة بدون أهلها.
6- الحكم للإسلام دين الأكثرية: وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من اشتجار أو حدث يخاف فساده فإنّ مردّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله، وذلك في الخلافات بين اليهود والمسلمين.
7- أما خلافاتهم بينهم فيُحكمون بديانتهم بينهم إلا إذا طلبوا حكم الدولة، { فَإِذَا جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ }.
8- جوار العدو ممنوع وجوار حلفائه: وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
9- ومسؤولية الدفاع عن الوطن مسؤولية شاملة لكلّ فرد: وإن بينهم النصر على مَن دهم يثرب.
10- ما تقره الدولة من سِلم أو حرب يسري على الجميع: وإذا دُعوا إلى صُلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه.
11- ومن حقّ غير المؤمنين على المؤمنين أن ينصروا حلفاءهم: وأنهم إذا دعوا لمثل ذلك فإنّ لهم على المسلمين إلا مَن حارب الدين.
12- لا أمان لظالم أو آثم في الدولة المسلمة مهما كان جنسه أو عقيدته: وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
13- وحق الأمن مصون للجميع في أموالهم وتحركهم وتعاملهم: وإنه مَن خرج آمن، ومَن قعد آمن، إلا مَن ظلم وأثم.
14- والدولة عون وكف ونصر لكلّ مَن برّ واتقى: وإن الله جار لكلّ مَن برّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبتفحّص الواجبات لا نجد إلا واجباً خاصاً على اليهود: هو الاستئذان إذا خرجوا من المدينة، وما تبقى فالمواطنون جميعاً شركاء فيه.
وعاش اليهود والأقلية في ظلّ الدولة المسلمة ينعمون بهذه الحقوق. ولم يمسّ أحد منهم بسوء. وكان التعامل قائماً بينهم وبين المسلمين، حتى ليستدين الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، ويرهن درعه عندهم، ويزورهم في بيوتهم، ويتزاوجون، ويستضيف بعضهم بعضاً كأنهم لحمة واحدة، ولكلّ دينه.
3- الأقليات على امتداد التاريخ الإسلامي:
نعرض نموذجاً من وضع الأمم في ظلّ الإسلام، وهو نموذج مصر.
" فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فوالله مالكم بهم من طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين.
فقالوا: وأيّ خصلة نجيبهم إليها؟قال: إذن أخبركم:أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به. وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثالثة. قالوا: أفنكون لهم عبيداً أبداً؟.
قال: نعم، تكونوا عبيداً مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وذراريكم وأموالكم خيرٌ لكم من أن تموتوا عن آخركم وتكونوا عبيداً تُباعوا وتُمزقوا في البلاد مستبعدين أنتم وأهلوكم وذراريكم.. "([155]).
" فاجتمعوا على عهدٍ بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع مَن بمصر أعلاها وأسفلها من القبط ديناران ديناران عن كلّ نفس، شريفهم ووضيعهم، من بلغ الحُلم منهم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحُلم ولا النساء شيء. وعلى أن للمسلمين عليهم النزل لجماعتهم حيث نزلوا، ومَن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعرض لهم في شيء منها... فكان جميع من أحصي يومئذٍ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط فيما أحصوا وكتبوا ورفعوا أكثر من ستّة آلاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذٍ اثني عشر ألف ألف دينار في كلّ سـنة "([156]).
لم يكن أهل البلاد الأصليين أقلية، لكنهم عندما دخلوا في الإسلام وانضموا إلى الفاتحين المسلمين، بقي الذين حافظوا على دينهم أقلية بالنسبة لكلّ قطر، وبقيت لهم حقوقهم كاملة كما هي من خلال الصورة السابقة.
يقول غوستاف لوبون بهذا الصدد ما يلي:
" وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارَهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتِحون عادةً، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم. ولو فعلوا هذا لتألبت عليهم جميع الأمم التي كانت غير خاضعة لهم بعد، ولأصابهم مثل ما أصاب الصليبيين عندما دخلوا بلاد سورية مؤخراً. ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أنّ النظم والأديان ليست مما يُفرض قسراً، فعاملوا - كما رأينا - أهل سورية ومصر وأسبانية وكلّ قطر استولوا عليه بلطفٍ عظيم، تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب إذا قيست بما كانوا يدفعونه سابقاً في مقابل حفظ الأمن بينهم. فالحقّ أنّ الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً مثل دينهم.
وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد أن توارى سلطان العرب عن مسرح العالم. ونعُدّ من الواضح خاصة أمر مصر التي لم يوفق فاتحوها من الفرس والأغارقة والرومان أن يقلبوا الحضارة الفرعونية القديمة فيها، وأن يقيموا حضارتهم مقامها "([157]).
" ويمكن القول بأنّ التسامح الديني كان مطلقاً في دور ازدهار حضارة العرب، وقد أوردنا على هذا غير دليل، ولا نسهب فيه، وإنما نشير إلى ما ترجم مسيودوزي من قصة أحد علماء الكلام الذي كان يحضر ببغداد دروساً كثيرة في الفلسفة، يشترك فيها أناسٌ من اليهود والزنادقة والمجوس والمسلمين والنصارى، فيستمع إلى كلّ واحدٍ منهم باحترامٍ عظيم، ولا يطلب منه إلا الأدلة الصادرة عن الفعل، لا إلى الأدلة المأخوذة من أيّ كتاب ديني كان، فتسامح مثل هذا هو مالم يتصل إليه أوربا بعدما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة، وما مُنيت به من المذابح الدامية "([158]).
ولا نبالغ إذا قلنا: إنّ فكرة الاعتراف بالآخر أو الاعتراف بالأقليات وحقوقها لم توجد في تاريخ البشرية إلا في ظلّ الإسلام. وقد يكون كثير من الظلم قد وقع على المسلمين أنفسهم من خلال صراعاتهم السياسية، لكن الشيء الثابت الذي لم يتغير على الإطلاق، والعدل الذي استمرّ طيلة القرون هو تعامل الإسلام ودولة الإسلام مع غيرهم، حيث لم تمس حريتهم بسوء، وعاشوا أربعة عشر قرناً في ظلّ الخلافة الإسلامية آمنين مطمئنّين، حتى كان القرن الأخير والذي قبله، حيث قامت الفتن الطائفية، وأصبحت سِمة العصر.
* الإسلام ينقذ النصارى من ظلم النصارى: نموذج مصر:
" ولما لم يكن للحكام الجدد من المسلمين اهتمام بالمنازعات الذهبية وأحزاب المجامع الكنسية، رأى عمرو أنّ من حُسن السياسة ألا يفرق بين الملكانية (مذهب الدولة) واليعقوبية (مذهب القبط شعب مصر)، فلم يتحيز لأحد من الطرفين، بل أقرّ الحرية الدينية، ورفع الاضطهاد عن القبط، وأظلّ الفريقين بعدله، وحماهما بحسن تدبيره، فنادت الحياة إلى المذهب اليعقوبي في هذا الجوّ الجديد، جوّ الحرية الدينية، حتى صار المذهب السائر في مصر كلها.
ولما عرف رهبان القبط هذا الأمر من عمرو بن العاص ويتقنوه، خرج عدد عظيم منهم من الأديرة التي كانوا قد اعتصموا بها خوفاً من الاضطهاد والعسف، وساروا في نحو سبعين ألفاً كما يروي المقريزي كلّ منهم يحمل في يده عصا إلى عمرو، ويعلنون له الطاعة، فأحسن لقاءهم ورحب بهم.
وكان عمرو بن العاص من جهة أخرى حريصاً على أن يعود البطريق بنيامين إلى رئاسته الدينية لما عرف من محبة القبط له، وتعلّقهم به، لذلك أرسل عمرو كتاباً إلى بنيامين يقول فيه:
" أينما يكون بطريق القبط بنيامين نعدّه بالأمان والحماية في عهد الله، فليأت البطريق إلى هنا في أمانٍ واطمئنان ليلي أمر ديانته، ويرعى أهل ملّته، أو كما جاء في عهد الأمان هذا في كتاب أبي صالح الأرمني، فليأت الشيخ البطريق آمناً على نفسه، وعلى القبط الذين بأرض مصر والذين في سواها لا ينالهم أذى، ولا تخفر لهم ذمّة.
ولم يلبث عن الأمان الذي كتبه عمرو بن العاص أن بلغ البطريق بنيامين، مناد من مخبئه، ودخل الإسكندرية دخول الظافرين، وفرح الناس برجوعه فرحاً شديداً بعد غياب بلغت مدّته ثلاثة عشر عاماً، ومن هذه المدّة عشر سنين وقع فيها الاضطهاد الأكبر للقبط على يدقيرس...
وأخذ بنيامين يقول لأتباعه: عدت إلى بلدي الإسكندرية، فوجدتُ بها أمناً بعد الخوف، واطمئناناً بعد البلاء، وقد صرف الله عنّا اضطهاد الكفرة وبأسهم..
وقد بلغ من ابتهاج القبط بعودة الحرية الدينية إليهم مبلغاً عبّر عنه ساويرس بقوله: إنهم فرحوا كما تفرح الأسخال (صغار المعز) إذا حلت قيودها، وأطلقت لترتشف من لبن أمّهاتها "... وكان من أثر هذه الحرية الدينية التي أطلق عمرو بن العاص عقالها أن أقبل كثير من عقلاء الروم والمصريين الأقباط على النظر في المذاهب المختلفة، ثم انتهى أكثر هؤلاء إلى قبول الإسلام والدخول فيه "([159]).
4- الأقليات في العالم وكيف عوملت:
خضع الشرق لكثيرٍ من الشعوب، كالفرس والأغارقة والرومان، ولكن تأثير هذه الشعوب السياسي إذا كان عظيماً دائماً فإنّ تأثيرها المدني كان ضعيفاً عموماً، وإذا عدوت المدن التي كانت تملكها هذه الشعوب رأساً رأيتها لم توفق لفرض دينها ولغتها وفنونها، ومن ذلك أن ظلّت مصر الثابتة في زمن البطالمة وفي زمن الرومان وفية لماضيها.. ولم يغير المصريون دينهم سوى مرّة واحدة قبل العرب، وذلك حين خرب قياصرة القسطنطينية بلاد مصر بتحطيمهم جميع آثارها أو تشويهها، وجعلهم القتل عقوبة مَن يخالف حظر عبادة آلهتها الأقدمين. وهكذا عانى المصريون ديناً جديداً فرض عليهم بالقوة أكثر من اعتناقهم له، وما كان من تهافت المصريين على نبذ النصرانية ودخولهم في الإسلام يثبت درجة ضعف تأثير النصرانية فيهم.
في الحروب الصليبية:
ويدلّ على سلوك الصليبيين في جميع المعابد ؛ لأنّهم أشدّ من الوحوش حماقة، فقد كانوا لا يفرّقون بين الحلفاء والأعداء والأهلين العزّل والمحاربين والنساء والشيوخ والأطفال.. ونرى في كلّ صفحة من الكتب التي ألفها مؤرّخو النصارى ذلك الزمن براهين على توحش الصليبيين. ويكفي لبيان ذلك أن ننقل الخبر الآتي الذي.................. الشاهد الراهب روبرت عن سلوك الصليبيين في............... قال المؤرخ التقي:
" وكان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبوءات التي خطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ، ويقطعونهم إرْباً إرْباً، وكانوا لا يستَبْقون إنساناً، وكانوا يشنقون أناساً كثيرين بحبلٍ واحد بغية السرعة. فياللعجب، وياللغرابة أن تذبح تلك الجماعة الكبيرة المسلحة بأمضى سلاح من غير أن تقاوم، وكان قومنا يقبضون على كلّ شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث. فيا لتلك الشعوب المعدّة للقتل، ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية ديناً.
ثم أحضر بوهيموند جميع الذين اعتقلهم ببرج القصر، وأمر بضرب رقابهم عجائزهم وشيوخهم وضعافهم، ويسوق فتيانهم وكهولهم إلى أنطاقية ليباعوا فيها.
وحدث قتل الترك في يوم الأحد الموافق 12 من ديسمبر، وإذ لم يمكن إنجاز كلّ شيء في ذلك اليوم، قتل قومنا ما بقي من أولئك في اليوم التالي "([160]).
وكانت القدس في ذلك الحين تابعة لسلطان مصر الذي استردّها من الترك، فاستولى عليها الصليبيون في 15 من يوليو سنة 1099م.. وكان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون.
قال كاهن مدينة لوبري ريموند داجيل: " حدث ما هو عجيب بين العرب حين استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعضهم، فكان هذا أقلّ ما يصيبهم، وبقرت بطون بعضهم، فكانوا يضطرّون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذابٍ طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمرّ المرء إلا على جثث قتلاهم...
لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك.. ولم يكتفِ الفرسان الصليبيون الأنقياء بذلك، فعقدوا مؤتمراً أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، الذين كان عددهم نحو ستين ألفاً، فأفنوهم على بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولداً ولا شيخاً "([161]).
في الأندلس ومع محاكم التفتيش:
" وعاهد فردنياند العرب على منحهم حرية الدين واللغة، ولكن سنة (1499) لم تكد تحلّ حتى حلّ بالعرب دور الاضطهاد والتعذيب الذي دامَ قروناً، والذي لم ينتهِ إلا بطرد العرب من إسبانية، وكان تعميد العرب كرهاً فاتحة ذلك الدور، ثمّ صارت محاكم التفتيش تأمر بإحراق كثير من المعمدين على أنهم من النصارى، ولم تتمّ عملية التطهير بالنار إلا بالتدريج ؛ لتقدر إحراق الملايين من العرب دفعة واحدة. ونصح كردنيال طليطلة التقي - الذي كان رئيساً لمحاكم التفتيش - بقطع رؤوس جميع مَن لم يتنصّر من العرب رجالاً ونساءً وشيوخاً وولداناً، وأمرت الحكومة الأسبانية في سنة (1610م) بإجلاء العرب عن أسبانيا، فقتل أكثر مهاجري العرب في الطريق. وأبدى الراهب البارع بليدا ارتياحه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين في أثناء هجرتهم. وهو الذي قتل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة كانت مؤلّفة من (140.000) مهاجر مسلم كانت متّجهة إلى أفريقية.
وخسرت أسبانيا بذلك مليون مسلم من رعاياها في بضعة أشهر، ويقدّر كثير من العلماء - ومنهم سيديو - عدد المسلمين الذين خسرتهم أسبانيا منذ أن فتح فردنياند غرناطة حتى إجلائهم الأخير بثلاثة ملايين، ولا تعد ملحمة بارتلمي إزاء تلك المذابح سوى حادث تافه لا يؤبه له، ولا يسعنا سوى الاعتراف بأنّنا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل، كتلك التي اقترفت ضدّ المسلمين.
ومما يرثى له أن حُرمت أسبانيا عمداً هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية.
ثم رأت محاكم التفتيش أن تبيد كلّ نصراني ترى فيه شيئاً من النباهة والفضل، فكان من نتائج هذه المظالم المزدوجة أن هبطت أسبانيا إلى أسفل دركات الانحطاط بعد أن بلغت قمّة المجد، وأن انهارَ معها كلّ ما كان فيها من الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والآداب والسكان "([162]).
5- الحرب العلمانية على الدولة العثمانية:
كان السلطان عبد المجيد فتىً لم يتجاوز السادسة عشر من عمره بعد وفاة والده السلطان محمود الثاني، وقد هزم الجيش العثماني أمام قوات محمد علي باشا في نصيبين شمالي سورية، وكان السلطان ومحمد علي أن يتفقا على حلٍّ سياسي خلاصته أن تبقى الشام ومصر لمحمد علي باشا وراثية، كما صرّح محمد علي باشا للقنصل البريطاني أنّه واثق بأنّ كلّ الاختلافات سوف تحسم دون تدخل القوى الكبرى ؛ لأنّه يعترف باحترام الكبير والخضوع للسلطان، وهذا ما رفضته الدول الأوربية أن يقوم حكم قويّ في مصر والشام، لذلك أرسلت إلى السلطان العثماني مذكرة مشتركة من سفراء كلّ من إنجلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسية تنصّ على عدم اتّخاذ قرار فيما بين السلطان العثماني ومحمد علي إلا بموافقتها وتحت علمها، وعرضت الدول الأوربية استعدادها للتوسط بين الفريقين.
فقبلت الدولة بهذا لحين استرجاعها ما فقدته من جيشها وأسطولها بعد مواجهة محمد علي، وتحت وطأة هذه الأزمة أصدر السلطان عبد المجيد أوّل مرسوم من مراسيم التنظيمات في أول سنة من تولي العرش،وبعد أربعة أشهر من ذلك استُدعي رشيد باشا السفير العثماني في لندن ليعين وزيراً للخارجية، وأقنع السلطان بهذا التنظيم - وهو الماسوني العريق - بحجة أنّ هذا البرنامج التغريبي يجعل الدول الغربية تساند الدولة في أزمتها، وأنها جديرة أن تعامَل معاملة الدول المتحضّرة الحديثة، وذلك بتطوير النظم وجعلها شبيهة بالنمط الأوربي الدستوري على أن تكون بداية الانطلاق هي مصلحة الرعايا المسيحيين وتحسين أحوالهم "([163]).
الحرب مع أوربا:
" وكما تمخضت أزمة محمد علي 1255-1256هـ / 1839-1840م عن صدور خط شريف كولخانة، فقد تمخضت حرب القرم في سنة 1270-1273هـ / 1853-1856م عن صدور خط إصلاحي جديد هو الخطّ الهمايوني، حيث اشتعلت الحرب بين روسيا والدولة العثمانية والحلفاء قرابة ثلاثة أعوام كان لا بدّ من وضع حدٍّ حاسم لها، فاتفق على عقد مؤتمر باريس للسلم وعقد المؤتمر في 11 جمادى الثانية 1273هـ، الموافق 25 شباط 1856م، وذلك بعد الإنذار الذي وجهته النمسا لروسيا، وذلك بانضمامها إلى الحلفاء في حالة رفض روسيا هذه الشروط.
وقد صيغت هذه الشروط في اتفاقية باريس التي وقع عليها كلّ من بريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا وتركية في البنود التالية:
1- تعهد الجميع بحفظ استقلال الدولة العثمانية الإسلامية.
2- المصالحة بين الفريقين المتحاربين، وإخلاء ما احتُلَّ من أراضي كلّ فريق.
3- إعادة المواقع العثمانية التي احتلّتها روسيا إلى العثمانيين.
4- إعلان العفو العامّ وإعادة الأسرى.
5- اعتراف الدول الأوربية باشتراك الباب العالي معهم في الاستفادة من المنافع الأوربية، واحترام استقلاله والمحافظة عليه.
6- تعهد الدول المتعاهدة بالتوسط لمنع الحرب بين الباب العالي العثماني والدول الأخرى.
7- إصدار منشور عثماني لصالح النصارى القاطنين في الدولة العثمانية.
واتفق لقبول العثمانيين ضمن المجموعة الأوربية أن تنفذ البند السابع من المعاهدة، وتصدر خطاً جديداً يضع برنامجاً للإصلاح أكثر اتساعاً ودقّة من خط شريف كولخانة "([164]).
والملاحظ أنّ كلّ تلك البنود في ظاهرها لصالح الدولة العثمانية، واستعدت الدول الأوربية لإعطاء هذه الميزات كلّها للدولة الإسلامية مقابل إصدار هذا المنشور العثماني للأقليات النصرانية في أرضها، وكان التنفيذ على يد ماسوني علماني أصيل.
فقد " ابتدأت التنظيمات الإدارية منذ عهد السلطان عبد المجيد، وكان وزير عبد المجيد رشيد باشا يرى في الغرب مثله الأعلى، وفي الماسونية فلسفته المثلى، وهو الذي أعد الجيل التالي به في الوزارة ورجال الدولة، وبمساعدته أسهم هؤلاء بعده في دفع عجلة التغريب التي بدأها هو أولاً، والذي صار سقوط السلطان عبد الحميد الثاني بعد ذلك وخروج الدولة عن الخط الإسلامي امتداداً طبيعياً لفكرة التغريب فيها، وقد أصدر مرسومين كانا بداية الانحراف عن الخطّ الإسلامي في التشريع الأول منهما في سنة 1839م، وعرف باسم منشور كلخانة، وصدر الآخر في 1856م، وعرف باسم الخط الهمايوني "([165]).
لقد ارتبطت الأقليات في الدولة العثمانية ارتباطاً دينياً ومذهبياً بوجهٍ عام، ففرنسا اعتبرت نفسها حامية للمذهب الكاثوليكي، وروسيا جعلت نفسها حامية للمذهب الأرثوذكسي في ممتلكات الدولة العثمانية، وإنكلترا جعلت نفسها حامية للمذهب البروتستانتي، وتدخل عوامل الغزو الفكري والعسكري في شؤون الدولة العثمانية جنباً إلى جنب، لحماية الأقليات ظاهراً، والقضاء على الإسلام في الحقيقة.
6- الأقليات في خط شريف كولخانة، والخط الهمايوني:
خط شريف كولخانة:
وهو الذي صدر بعد أزمة الدولة العثمانية مع محمد علي باشا.
" ونصّ الخط على تساوي رعايا الدّولة أمام القانون، المسلمين منهم وغير المسلمين، ولكن مع المحافظة على الشريعة الإسلامية أو الإطار الإسلامي، وتوفير الإخاء بين كلّ رعايا الدولة العثمانية بهدف تقوية الدولة، كما أكد على إيجاد ضمانات لأمن جميع رعايا الدولة على أموالهم وأملاكهم وأرواحهم، وهذا يعني وجوب إعلان المحاكمات ومطابقتها للوائح، وإلغاء نظام مصادرة الأملاك، وإيجاد نظام ثابت للضرائب، وتحديد نظام ثابت للجندية، بحيث لا تستمرّ مدى الحياة، ودعا الخط إلى الحرية الشخصية، والتملك الشخصي بحرية، وأعيد تنظيم الإدارة المحلية والمركزية.
الموقف من هذا الخط:
وبالرغم من موافقة هذا الخط لأهداف الدول الأوربية، فقد رفضه النصارى بدعوى أنه يجرّدهم من الامتيازات التي كانوا ينعمون بها عدّة قرون، والتي توفر لهم الحمايات الأجنبية...
لقد كانت الامتيازات التي نالتها الأقليات في الدولة العثمانية تفوق حقوق المسلمين العاديين, ولذلك تأذوا من المساواة معهم، فهناك ما اختصهم به الإسلام ابتداءً من توفير حياتهم وأرواحهم وحماية ممتلكاتهم، وهناك الضغوط من الدول الأجنبية لإعطائهم حقوقاً جديدة فوق الحقوق التي ضمنها لهم الإسلام. ولم تكن المساواة من الناحية العملية إلا إعلاناً للخروج عن المنهج الإسلامي الذي يخرجهم من ذمة المسلمين وحمايتهم إلى إعطائهم المساواة التامّة مع المسلمين.
لقد انتقلت المواطنة في الدولة العثمانية من الفقه الإسلامي إلى القانون العلماني، وهذا كلّه لم يُرضِ الدول الأوربية وأعداء الإسلام، إنما كانوا يريدون هذا الأمر مع الامتيازات التي أعطاها الإسلام لأهل الذمّة، والامتيازات التي فرضوها بضغوطهم على الدولة العثمانية. وبتعبيرٍ آخر: يريدون المواطن النصراني واليهودي مواطن الدرجة الأولى، والمواطن المسلم هو مواطن الدرجة الثانية.
وقد وجد آنذاك من أسبغ الشرعية الإسلامية على خط كولخانة، فعندما ثار المسلمون وقالوا عنه: هذا شرع مخالف للإسلام، " اضطرّت الدولة إلى إرسال شيخ الإسلام عارف حكمت إلى جهات الاضطراب لوعظ الناس وأمرهم بالطاعة والامتثال، فخطب بذلك على المنابر, وبيّن للناس أنّ تلك التنظيمات ليست خارجة على المنهج الشرعي "([166]).
هذا ويمكن أن نعتبر المواطنة أساساً إسلامياً طالما تبنّتها تشريعات الدولة وأقرّها شيخ الإسلام,واعتبار المساواة بين المواطنين مما لا يتناقض مع الإسلام بعد تغير الأوضاع العالمية والدولية ؛ إذ لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، واعتبار هذا الخطّ هو المنطلق الأساسي لفكرة المواطنة في الدولة الإسلامية.
الخطّ الهمايوني:
بناءً على المادّة السابقة من قرارات مؤتمر باريس، صدر خط همايون، وهو تأكيد على ما جاء في خط كلخانة مع إضافة جديدة تتعلق بحقوق النصارى والتنظيمات الإدارية الجديدة، فكان أكثر دقة من الخط الأول "([167]).
وبالرغم من أنّ الخط الهمايوني جاء نتيجة للضغط الخارجي ومن ضمن شروط الصلح على عكس خط كلخانة، فقد تشابه الخطّان في كثيرٍ من النقاط، إلا أنّ صيغة الخط الهمايوني كان أكثر عصرية، وأكثر اقتباساً عن الغرب بصورة لم تعهد من قبل في الوثائق العثمانية، فهو لم يستشهد بآية قرآنية واحدة، أو بقوانين الدولة العثمانية القديمة وأمجادها.
مضامين هذا الخط:
" يتّضح من هذا الخطّ التركيز على المساواة الدينية، وفصل حقوق معينة للنصارى، منها: أنّ المسائل المدنية تكون العهدة في إدارتها على مجلس مختلط بين المدنيين ورجال الدين النصارى ينتخبه الشعب بنفسه، ومنها عدم إكراه المسلم الذي يعتنق النصرانية على الرجوع إلى الإسلام، بل يُسمح له بالردّة عن الإسلام واعتناق النصرانية "([168]).
ثم فتحت أبواب معاهد التعليم الرسمية، وبالتالي وظائف الدولة المدنية أمام المسيحيين الذين فرضت عليهم الخدمة الإلزامية رسمياً، ووعدوا بزيادة تمثيلهم في مجالس الولايات والمجالس المحلية، ووعد السلطان بإيجاد نظام ضريبي أكثر عدالة، كما وعد بتحديد ميزانية سنوية وإنشاء البنوك، والاستعانة برأس المال والخبرات الأوربية (اليهودية) بهدف تطوير اقتصاد الدولة، وتبويب القانون الجنائي والقانون التجاري، وإصلاح نظام السجون، وإنشاء محاكم مختلطة في القضايا الخاصة بالمسلمين وغير المسلمين. وقد وعدت الدول الأوربية مساندتها التامّة لهذا الخطّ ؛ لضمان تنفيذ العثمانيين لوعودهم "([169]).
وقد أعقب صدور خطّ كلخانة والخط الهمايوني مجموعة من القوانين التنظيمية التي مست المجتمع العثماني، وقد صدرت هذه القوانين في أوقات متفاوتة، كان أوّلها صدور القانون التجاري 1850م، وكان معظمه مأخوذاً من القانون الفرنسي، ثم القانون الجنائي الصادر سنة 1858م.. وكلّ هذه القوانين.............. من القانون الفرنسي "([170]).
الموقف من الخط:
على عكس الموقف من خط شريف كولخانة، حيث حاولوا أن يلبسوه اللباس الإسلامي، ويتبناه شيخ الإسلام، ويمضي في الولايات مبشراً به، ومعلناً أنه منبثق من الإسلام، فلم يكن الأمر كذلك بالنسبة للخطّ الهمايوني، لقد صدر عارياً مدنياً علمانياً دون أية إشارة إلى ارتباطه بالإسلام.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد انتقده شيخ الإسلام. وعلى الرغم من انتقاد شيخ الإسلام له كما انتقده رجل الإصلاح رشيد باشا بطل الخط - كولخانة -، وتبع هذه الانتقادات انتقادات أخرى من كبار رجال الدولة العثمانية. وقال رشيد باشا: إنه سار أشواطاً إلى الأمام لأنّه جاء كقفزة بدلاً من النص على تنفيذ الإصلاح بالتدريج، وإن إلحاقه بصلح باريس يشكل خطراً على السلطان والدولة.
تحويل الأقلية إلى أكثرية:
عندما كانت الدولة العثمانية في أوج قوّتها وانتصاراتها كانت الأكثرية الإسلامية تاركة الحكم الذاتي للأقلية، ومفسحة لها المجال في المشاركة في الحياة السياسية العامة حسب الكفاءات الموجودة فيها، وعندما ضعفت الدولة العثمانية وبقيت محاولة على أملاكها تحول الأمر من - أهل ذمّة - إلى - أقلية -، فاستفادت من حقوق أهل الذمّة ومن الامتيازات التي فرضتها الدول الأجنبية، وبقيت هذه الدول تتباكى على حقوق الأقليات الدينية ثمّ الأقليات القومية إلى أن طردت الدولة العثمانية من أوربا، فصار المسلمون في أوربا (أقليات) في كلّ دولة يقيمون فيها، فلم يعد أحد يتباكى على الأقليات، ولا على حقوقها، وأصبح همّ كلّ دولة أوربية فيها أقلية مسلمة أن تستأصل هذه الأقليات وتقضي عليها، وبرز الحقد الصليبي ثم الشيوعي على أشدّهما في التعامل مع هذه الأقليات ابتداءً من حرمانها حقوقها وعدم الاعتراف بوجودها، وانتهاءً بالعمل على استئصالها وإبادتها.
إنّ ظهور الدولة القومية في أوربا والتي انطلق شظاها ونارها فأحرق الأتراك والعرب، إنما تجسد في انفصال هذه القوميات العرقية عن الدولة العثمانية، وانتهى بإلغاء الخلافة، وتبرز الروح العلمانية في هذه الدول كلها على السواء بإبعاد الدين عن الدولة، وجعل حقّ التشريع للشعب وممثليه فقط، وإنهاء الأقلية من خلال حكم الأكثرية الديمقراطي.
7- الأقليات الإسلامية في العالم:
يختلف تقدير أعداد الأقليات المسلمة في العالم بين الباحثين لعوامل متعدّدة، وإذا أردنا أن نصل إلى تقديرات أقرب للواقع، فأفضل الأساليب هو توثيق العلاقات بالأقليات المسلمة في العالم، والاستعانة برأيها وخبرتها في هذا المجال، إضافة إلى الاستعانة بالمراكز الإسلامية المبثوثة في العالم.
وهذه التقديرات التقريبية إنما قدمها الباحث د. محمد محمود محمدين([171]) على ضوء بعض الأسس المتاحة التي اقترحها الباحث.
" تناول البحث تقدير أعداد الأقليات المسلمة في العالم بأكثر من (371) مليون، أي (35%) من مجموع المسلمين في العالم الذين قدرهم الباحث بأكثر من (1066) مليون سنة 1985م "([172]).
القـارة
عدد السكان المسلمين في الدول الإسلامية
الأقليات المسلمة بالمليون
المجموع
1
آسيا
470 مليون
282 مليون
752 مليون
2
أفريقيا
223 مليون
70 مليون
293 مليون
3
أوربا
2 مليون
15 مليون
17 مليون
4
الأمريكتان
-
4 مليون
4 مليون
5
أستراليا
-
0.3
0.3
6
المجموع
695 مليون
371.3 مليون
1066.3 مليار
7
النسبة
65%
35%
100%
وتتزايد أعداد المسلمين في العالم ما بين 21-25 مليون في السنة([173]).
أ / الأقليات المسلمة في آسيا:
تقدر أعداد المسلمين في أهمّ أقطار آسيا غير الإسلامية على النحو التالي:
الدولــة
عـدد المسلمين بالمليون
نسبتهم المئوية من مجموع السكان
1
الهند
100 مليون
15%
2
الصين الشعبية
95 مليون
10%
3
الاتحاد السوفيتي([174])
65 مليون
25%
4
سريلانكا
1.2 مليون
8%
5
تايلاند
6.1 مليون
12%
6
بورمـا
2.7 مليون
7%
7
الفلبين
5.7 مليون
11%
8
دول آسيوية أخرى
2.4 مليون
---
ومما تجب الإشارة إليه أنّ مسلمي آسيا يلقون اضطهاداً، ويتعرّضون للمذابح في بعض المناطق، كما هو الحال في الاتّحاد السوفيتي وفي الفلبين، وفي تايلند، وفي الهند... وما حدث في أسام دليل على ذلك، حيث دمرت قرى المسلمين، وذبح الرجال والنساء والأطفال.
ب/ الأقليات الإسلامية في أفريقية:
يقدر عدد المسلمين في أفريقيا بأكثر من (293) مليون، منهم (223) مليون مسلم يعيشون في الأقطار الإسلامية بنسبة 76%، ويعيش أكثر من (70) مليون (24%) في أقطار غير إسلامية.
ويقدر عدد المسلمين في بعض الدول الأفريقية غير الإسلامية على النحو التالي:
الدولــة
عـدد المسلمين بالمليون
الدولــة
عـدد المسلمين بالمليون
أثيوبية
17 مليون
ملاوي
2.8 مليون
تنزانيا
12 مليون
مدغشقر
2 مليون
أوغندا
5 ملايين
موزنبيق
2 مليون
كينيا
4 ملايين
زامبيا
1.2 مليون
غانـا
3.9 ملايين
--
--
وجدير بالذكر أن مسلمي أثيوبيا يلقون معاملات سيئة، ويتعرّضون للاضطهادات الدينية.
ما فعله أقطاب الشيوعية في تلك الأقطار الإسلامية يفوق الخيال. في تركستان (مجموعة الجمهوريات) قتل (6) ملايين مسلم سنة 1919م، هرب منهم مليونان ونصف. في سنة 1933م قتلوا (100.000) مسلم. هذا وقد ثبت بالإحصائيات أنّ ستالين قد قتل (11) مليون مسلم.. أما في القرم.. يقول الشيخ الغزالي في كتابه: (الإسلام في وجه الزحف الأحمر): كان سكان القرم (5) ملايين مسلم سنة 1917م، فأمسوا سنة 1940م (400.000) فقط، أي أقلّ من عُشر السكان. أين ذهب أولئك المسلمون؟. أمسوا عمالاً هائمين في فيافي سيبريا وغيرها. وكان في المناطق الإسلامية (600) مدرسة لتعليم القرآن والدين الإسلامي قبل الثورة الشيوعية، و(24) ألف مسجد، لم يبقَ منها حتى الآن سوى عدد قليل جداً. وحول الكثير منها إلى ملاهي ودور سينما ومستودعات ومتاحف.. وغير ذلك([175]).
وأما الشيشان، ذلك الشعب المسلم الذي لا يتجاوز المليون ونصف المليون، فقد وجهت له قنابل الطائرات وقذائف المدافع وصنوف العذاب، فقتل منه مئات الألوف، وشُرّد الشعب بأكمله، ودُمّرت المدن، وأُحرقت القرى، وانتهكت أعراض، ويتّمت أطفال. فما وهن ولا استكان، وما زاده ذلك إلا صموداً وتمسّكاً بدينه..
والهمجية التي يمارسها الروس على الشيشان تفوق الوصف، ولولا أنّ شبكات التلفزة تنقل صور الحرق والدمار الذي تقوم به الطائرات وراجمات الصواريخ دون تمييز، لَما صدّق أحدٌ صدورها من الحيوانات، بل الإنسان([176]).
هذا وقد استقلّت الجمهوريات الإسلامية عن روسيا، وشكلت دولاً مستقلة هي بتاريخ 2/92.
الجمهورية
العاصمة
عـدد السكان
المسلمين
1
أوزبكستان
طشقند
22.000.000 مليون
88%
2
قازاقستان
ألما أتا
16.782.000 مليون
52%
3
قرغيستان
بيشكيك
4.590.000 ملايين
73%
4
طاجيكستان
دوشنبة
5.500.000 ملايين
90%
5
تركمانستان
عشق أباد
3.789.000 ملايين
86%
6
أذربيجان
باكو
7.270.000 ملايين
82%
ويقدر عدد المسلمين في هذه الجمهوريات بـ(53) مليون مسلم.
جـ/ الأقليات المسلمة في أوربا:
لا توجد في أوربة إلا دولة إسلامية واحدة، هي ألبانيا، وتقع جنوب شرقي أوربا، ويصل عدد المسلمين فيها إلى مليوني نسمة. أما بالنسبة للأقليات المسلمة في أوربا فيصل عددها إلى (15) مليون,ويعيش في يوغسلافيا وحدها أكثر من خمسة ملايين مسلم.
" وقد بدأت مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك في إبريل 1992م بعد تفكّك جمهورية الاتحاد اليوغسلافي أعلنت جمهوريتا صربيا والجبل الأسود اتحادهما، كما أعلنت جمهوريات كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا استقلالها، ولكن ما إن أعلنت جمهورية البوسنة والهرسك ذات الغالبية المسلمة استقلالها حتى تكالبَت عليها قوى الشرّ "([177]).
وسقط منهم (250) ألف شهيد، من بينهم (70) ألفاً قضوا نحبهم في مجازر جماعية، ومثّل الصربيون بأجسادهم. وجرحاهم أكثر من عدد شهدائهم، ولم يهنوا، وأصبح من بينهم (150) ألف معاق، ولم يستسلموا. أما المعتقلون في معتقلات تقشعرّ لها أبدان أتباع هتلر، فقد وصل عددهم (300) ألف، لكن المشردين بلا مسكن ولا مأوى عددهم مليون و(800) ألف، هجروا في داخل البوسنة والهرسك، و(375) ألف هجروا إلى خارج أراضي الدولة. أتعرف ما هو العدد الكلي للشعب المسلم في البوسنة والهرسك؟. إنه أكثر من (3) مليون نسمة بقليل. إذن أعد الحساب لتعرف حجم الكارثة "([178]).
وآخر مآسي المسلمين في أوربا قرار منع الحجاب للمسلمات، الصادر عن الرئيس الفرنسي, بحجة تناقضه مع علمانية الدولة، وتبدأ مأساة ملايين المسلمين عند إقراره من مجلس النواب الفرنسي.
د / الأقليات المسلمة في الأمريكيتين:
يقدّر عدد المسلمين في الأمريكيتين بما يقرب من أربعة ملايين مسلم([179]).
وتضمّ الجالية الإسلامية في أمريكا الشمالية أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، منهم أكثر من مليونين من أصل أفريقي من المسلمين السود.
ويقدّر عدد المسلمين في أمريكا الجنوبية والوسطى بِـ(400) ألف مسلم. وهناك منظمات إسلامية عديدة في الولايات المتحدة لها نشاط ملموس، مثل المجلس الإسلامي واتّحاد الطلبة المسلمين، وله فروع في أكثر الولايات. وهناك مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية الذي يمثل المسلمين لدى الحكومة الأمريكية، غير أنّ الأوضاع اختلفت كثيراً بعد أحداث 11 أيلول، وتحوّلت أمريكا بقوانينها الاحتياطية إلى دولة بوليسية، حتى ليقول نهاد عوض ؛ المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية: لا نطالب بغير العدالة والمساواة، " ونحن كنا ولا نزال نعتقد بأنها سياسة تقوم على التمييز العنصري، ولم تكن مجربة، ولم توفر الأمان والحماية لأحد، بل استهدفت المسلمين والعرب كونهم مسلمين وعرباً، وكنا محقّين برفع دعوى قضائية ضدّ الحكومة. وعندما سئل: هل تَمّ اعتقال أو اتهام أيّ شخص في إطار هذا الإجراء (تسجيل نفسه) خلال العام الماضي بتُهم تتعلق بالإرهاب؟. فأجاب: المشكلة أنه تَمّ اعتقال مجموعة كبيرة من العرب والمسلمين... وتَمّ ترحيل مجموعة كبيرة من العرب والمسلمين، ولم نسمع أحداً أُدين بموجب هذه الاعتقالات بتُهم تتعلق بالإرهاب...
وما نُطالب به هو ما طالبت به أقليات أخرى دفاعاً عن الدستور الأمريكي وعن الحريات، وهو أن تكون عدالة متساوية، وأن لا يستخدم القانون بانتقائية، فمن المعروف أنّ الحريات المدنية في الولايات المتحدة متدهورة، وهو أمر فرضَ نفسه على برامج المرشحين للانتخابات، حتى الجمهوريين منهم "([180]).
هـ/ الأقليات المسلمة في أستراليا:
عدد المسلمين في أستراليا (300) ألف مسلم، ويوجد في أستراليا خمس وخمسون جمعية إسلامية، وأكثر من (35) مسجداً ومركزاً إسلامياً.
والمطلوب من الدول الإسلامية أن تتخذ بعض الإجراءات ضدّ الدول التي تضطهد الأقليات المسلمة.
أما ما تعانيه الأقلية المسلمة عند اليهود في فلسطين فله حديث آخر، وبتفصيل في غير هذا المجال، وإن كان المسلمون قد غدوا............... لليهود المحتلين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق